ما زال الشيخ إمام عيسى (1918 - 1995) متربعاً على عرش الغناء السياسي، أداءً وتلحيناً؛ فالموقع الذي تركه قبل 28 عاماً، لم يملأه أحد، رغم ظهور عدد من الفنانين المتميزين الذين أعطوا الغناء السياسي الاحتجاجي مساحة معتبرة من إنتاجهم.
ولا جدال في أن ظروف النشأة والتكوين، والسياق السياسي والاجتماعي، والتعرف إلى شاعر من طراز أحمد فؤاد نجم، وتجربة السجن المتكرر، عوامل تضافرت لتجعل من إمام نموذجاً يصعب أن يتكرر. لكن هذا لا يبرر ذلك التركيز الكبير على "السياق"، في كل كتابة تتناول سيرة الشيخ، ولا سيما إذا كانت محاولات فهم هذا السياق تستغرق أكثر من 90% مما سطرته الأقلام عنه، ما يعني أن الميزان مختل لصالح "السياق"، على حساب النظر الفني المحض.
لم يمتلك الشيخ إمام صوتاً استثنائياً، فلا هو محمد عبد الوهاب، ولا هو صالح عبد الحي، لكن نشأته التجويدية منحته القدرة على تطويع صوته ليعبر عن أي فكرة نغمية تخطر بباله. بداياته مع التلاوة صقلت أداءه المنتمي إلى عالم الشيوخ والقرّاء، وتلمذته للشيخ درويش الحريري أكسبته كل مهارات الغناء الكلاسيكي مقامياً وإيقاعياً. فلما جاء النصف الثاني من عقد الستينيات، ووقعت الهزيمة، حمل الشيخ إمام كل هذه المهارات في حقيبته، ودخل بها عالم الغناء السياسي الاحتجاجي الساخر اللاذع، ليقدم نموذجاً فنياً نادراً يتمثل في ثنائية "كلاسيكية الأداء، وتقدمية الكلمة".
وبإمام، امتلك اليسار المصري قوة معنوية ضاربة لم يكن يحلم بها: مغنّ وملحن يحفظ القرآن ويجوده ويتلوه أحياناً في المآتم والسرادقات، مصقول بالتعليم الموسيقي المشيخي، يتلقى كلمات أحمد فؤاد نجم، فيصوغها بألحان تجمع بين مسرحية سيد درويش وتطريب زكريا أحمد. أصبحت التقنيات الكلاسيكية القديمة تستخدم في أغنية تعارض الاستبداد السياسي، وأمست مهارات المنشدين توظف في عمل يرثي جيفارا، أو يسخر من الانفتاح الاقتصادي.
إذن، كان التعليم بالتلقي والصقل والتدريب أول الدروس التي تمنحها سيرة الشيخ إمام للأجيال الجديدة من المطربين، الذين يضل بعضهم الطريق، حين يجد نفسه في موضع "النجم" من دون تأهل كاف يضمن الاستمرار والإجادة. وقد أثبتت التجارب المتكررة، أن ما يُعرف بالتعليم الأكاديمي، لا يضمن تأهيلاً حقيقياً ومتيناً للمطرب أو الملحن أو العازف.
وإذا كانت العبرة بالنتائج، فإن من السفه أن يقول قائل إن أم كلثوم وعبد الوهاب ومحمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي، لم يتعلموا لأنهم لم يجتازوا الدراسة الأكاديمية أو ينالوا شهادات رسمية، ولا ريب أن التنشئة الفنية لهؤلاء الأعلام جديرة بالاحترام والاهتمام والدراسة، فربما اكتشفنا أن هذه التنشئة هي التعليم الحقيقي، أو ربما استطعنا أن نضع أيدينا على موضع الخلل في التعليم الموسيقي الأكاديمي، الذي فشل على امتداد 100 عام، في إمداد الحياة الفنية بأمثال زكريا والسنباطي، أو سيد مكاوي وإمام عيسى.
استطاع الشيخ بألحانه وغنائه أن يتجاوز تلك الجدلية المملة حول "التعبير" و"التطريب"، فدلالة موسيقاه على الكلمة المفردة أو الجملة المركبة واضحة بدرجة كبيرة: الحزن يصل إلى حد النواح، والسخرية تصل حد القهقهة والاستهزاء، والنضال الثوري يصل حد الخطابة والتحريض.
لكنه في كل هذا، لا يدع التطريب يفلت من بين يديه لحظة واحدة، بالإعادات المختلفة، والإضافات المتجددة، والمفاجآت التي لا تكاد تتناهى، والقفلات الحراقة، والتلاعب بالإيقاع، بل يصل الأمر أحياناً إلى تقديم شكل بسيط لـ"الهارموني"، حيث يسير عزفه على العود في خط نغمي، ويسير غناؤه في خط مختلف، ولكل هذه الأسباب كان الشيخ إمام من قلة نادرة من المغنين الذين يبحث الهواة عن تسجيلاتهم المختلفة لنفس الأغنية، للتلذذ بتلك الاختلافات والتصرفات الفورية العفوية بالغة الإطراب.
الحقيقة أن تحليل أغنيات الشيخ إمام يُظهر أن ألحانها بسيطة جداً، سهلة العزف، وسهلة الحفظ، يقدر على غنائها أي مطرب أو مطربة، لكن الرجل كان يكسبها بأدائه أبعاداً أكبر، ويمنحها قدراً من الصعوبة، التي قد توقع من يريد أداءها في قلق المقارنة بينه وبين صاحبها. وقد كررت الفنانة عزة بلبع مراراً -وهي من أبرز من أدوا أعمال إمام- أن لا أحد يمكنه أن يجاري الشيخ في أدائه لألحانه.
ربما كانت أغنيته ذات الطابع الملحمي، "جيفارا مات"، من أوضح الأمثلة على الأسلوب التلحيني والغنائي للشيخ. لحن حزين من مقام الصبا، يسرد خبر مقتل غيفارا، وينعي للعالم "المناضل المثال"، لكن حين ينتقل الكلام إلى المقارنة مع المناضلين المزيفين، ورغم استمرار اللحن في مقام الصبا، يكسوا إمام أداءه بمسحة تجمع بين الأسى والسخرية: "يا محفلطين.. يا ملمعين.. يا جيمسنات.. يا بتوع نضال آخر زمن في العوامات".
وفي بعض التسجيلات يضيف الرجل صوت الضحكة الساخرة: "هاهاها". وتلك التفاصيل تضع من يريد غناء هذا اللحن أمام خيارين: إما أن يتجنب الإضافات والتفاصيل، ويؤدي اللحن "سادة"، فيفقد مبرر إعادة تقديم الأغنية، وإما أن يستعير التفاصيل عينها التي أضافها الشيخ، فيظهر وكأنه مجرد مقلد لا قدرة له على إظهار شخصيته الفنية أو أسلوبه الخاص.
يستمر الشيخ مع مقام الصبا، وحين تصل الكلمات إلى مقطع "عيني عليه ساعة القضا"، يتغير الإيقاع إلى الواحدة الصغيرة، مضفياً طابعاً جنائزياً انتحابياً، ويأخذ الغناء مساراً درامياً تصاعدياً بأسلوب "توتير اللحن"، يبلغ ذروته مع جملة: "صور كتير.. ملو الخيال.. وألف مليون احتمال"، ثم تأتي الانفراجة مع القفلة المطربة المشبعة: "لكن أكيد ولا جدال.. جيفارا مات موتة رجال".
ومن هذا المقطع بدرجاته الحادة، يمكن أن نفهم قرار الشيخ الخبير بتصوير مقام الصبا من على درجة العشيران، أي مخفوضاً درجتين ونصفاً عن رتبته الأصلية على وتر الدوكاه، ما مكنه من الأداء في مساحة ديوان ونصف، من دون أن يخذله صوته.
ومع انتهاء المشهد الدرامي الجنائزي، وتغير وجهة الكلمات من الانتحاب إلى دعوة الفقراء والبؤساء إلى الثورة، ينتقل اللحن إلى مقام النهاوند بصورة مؤثرة وعاطفية: "يا شغالين.. ومحرومين.. يا مسلسلين.. رجلين وراس". وحين يكرر أفراد الكورس الكلمات، يلاحقهم الشيخ بإعادتها بأسلوب مطرب مؤثر، ثم يبدأ مرحلة جديدة من التصعيد الدرامي وصولاً إلى ختام الأغنية: "يا تجهزوا جيش الخلاص يا تقولوا ع العالم خلاص". كل تفاصيل هذا اللحن، ترجح أن الشيخ إمام صاغه بنفس أوركسترالي، وأن العمل يستحق إعادة تقديمه بتوزيع كبير، وكل تفاصيل الأداء تؤكد أن الرجل كان حالة استثنائية في تاريخ الفن بغض النظر عن السياق السياسي والاجتماعي الذي ظهر فيه.
ومن الضروري أن ننتبه إلى أن علاقة أغنيات إمام بالسياقات السياسية والاجتماعية ليست بمستوى واحد، بل يمكن تصنيف إنتاج الرجل سياقياً إلى ثلاثة أقسام: الأول، قسم شديد الارتباط بمناسبة أو بأشخاص أو بوقائع قد انتهت، مثل "الحمد لله خبطنا" التي تنتقد نظام الرئيس جمال عبد الناصر بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، أو "شرفت يا نيكسون بابا" التي غناها بمناسبة زيارة الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، لمصر والمنطقة، أو "فاليري جيسكار ديستان" التي غناها بمناسبة زيارة الرئيس الفرنسي، أو مجموعة الفوازير التي يهجو فيها أحمد فؤاد نجم عدداً من الرموز السياسية والثقافية والفنية، أو قصيدة "البتاع" التي تنتقد الانفتاح الاقتصادي الذي انتهجه الرئيس الراحل أنور السادات. وهذه الأعمال لا تكاد تُفهم إلا بفهم سياقها، لكنها صارت جزءاً من تاريخ الشيخ إمام، بل من تاريخ الغناء الاحتجاجي، وكثير منها يحمل بيانات توضيحية لأسلوب الشيخ في التلحين والغناء.
والقسم الثاني، يتمثل في تلك الأغنيات التي ترتبط بسياق ممتد نسبياً أو قابل للتكرار، مثل "شيد قصورك" التي يستدعيها الشباب العربي ضد الأنظمة المستبدة والقمعية، أو أغنيات القضية الفلسطينية، أو "واه يا عبد الودود"، أو "دلي الشيكارة"، أو "دار الفلك" أو "الممنوعات". ولا ريب أن هذا القسم يحظى بقدر أكبر من الاستحضار وإعادة التقديم، وهو ما تكرر أثناء ثورات الربيع العربي، أو الاحتجاجات على الأوضاع الاقتصادية في لبنان.
لكن في رصيد الشيخ إمام قسم ثالث، يتمثل في عدد ليس قليلاً من الأغنيات، التي لا ترتبط بأحداث ولا وقائع، ولا تحتاج سياقاً يبرر استحضارها، ومن أمثلة هذا القسم الأغنيات الوطنية المتجاوزة للوقائع السياسية، مثل: "مصر يمّه يا بهية"، أو "يا مصر قومي وشدي الحيل"، أو "يا اسكندرية بحرك عجايب"، أو الأغنيات العاطفية وفي مقدمتها "أنا أتوب عن حبك"، المؤثرة جداً نصاً ولحناً، أو الأغنيات التي تجمع أبعاداً عاطفية وأخرى وطنية أو صوفية، مثل "وهبت عمري للأمل" أو "الله حي"، أو "نويت أصلي".
حتى هذه اللحظة، لا يعترف الإعلام الرسمي العربي بالشيخ إمام عيسى، ولا تبث الإذاعات والقنوات التلفزيونية أي أغنيات سياسية للرجل، وحتى الأعمال غير السياسية لا تذاع إلا في استثناءات نادرة. ما زال الشيخ محظوراً؛ إذ يمثل بصوته وأعماله نموذجاً تحريضياً، يؤجج الغضب ويدعو إلى السُخرية. وإذا كان الحصار الذي ضُرب على الرجل منذ منتصف الستينيات وحتى رحيله، لم يمنع أغانيه من الانتشار، والوصول إلى كل مكان في بلاد العرب، فالمؤكد أن عدم الاعتراف الرسمي به في عصر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ليس إلا ضرباً من الخبل السياسي والإنكار الفني.