يستدعي الحاصل في فرنسا حالياً أفلاماً، يقول البعض إنّها "مُتنبّئةٌ" به. أبرزها "أتِينا" (2022)، للفرنسي رومان غافراس، كونه الأحدث إنتاجاً. هناك من يتذكّر "البؤساء" (2019)، لمواطنه لادج لي. هذا يُشبه أحداثاً/مفاصل أساسية في سيرة العالم، كالاعتداء الإرهابي على الولايات المتحدّة الأميركية (11 سبتمبر/أيلول 2001)، وغزو الفضاء غير المغزوّ فعلياً بعد، والكوكب الأقرب إلى الأرض، "المرّيخ"، له حصّة في الاستكشاف السينمائي، كـ"الكوكب الأحمر" (2000) لأنتوني هوفمان و"المرّيخي" (2015) لريدلي سكوت و"طلقات القمر" (2022) لكريستوفر وينترباور، مثلاً، أو كـ"معتدي" على الأرض وسكّانها، كما في "هجمات المرّيخ!" (1996)، لتيم بورتون.
استدعاءٌ يدفع إلى سؤال، لا أدّعي إجابة حاسمة عنه: أتكون السينما، فعلاً، "نبوءة" مُقبلٍ ما؟ رغم سحر السينما وبراعتها في اقتفاء الآتي، أو بعضه، قبل حصوله؛ أو تصويره، ومُعظم المُصوَّر عن المُقبل، القريب والبعيد، قابلٌ للحصول فعلياً، أو حاصلٌ بشكلٍ ما بعد إنجاز أفلام عنه، فإنّ مفردة "نبوءة" غير ملائمةٍ لفنٍّ، يُفترض بمن يصنعه أنْ يمتلك معرفة وثقافة ووعياً وإدراكاً وأحاسيس، وقدرة هائلة على رؤية المستقبل، وفقاً لرؤيته الآنيّ والسابق.
يُسمّي البعضُ هذا نبوءة، لا أستخدمها. والبعض، إذْ يستخدمها لاقتناعه بها، يُجرِّد السينما من أصالتها كفنّ يُتقن النظر في أحوال وحالات ومشاعر، وكفنّ يُفترض بمن يصنعه امتلاك حُسن بصرٍ وبصيرة معاً، بعيشٍ ومتابعة ومراقبة ومعاينة وقراءة وتفكيك.
النبوءة فعلٌ ديني لا علاقة له بالفنّ، وتحديداً السينما. هذا شأنٌ غير ماديّ، وللسينما ثقلٌ ماديّ، إذْ إنّها تعاين واقعاً/حياة يمتدّان من أول التاريخ، أو ما قبله، إلى ما بعد المُقبل غير المحسوم والواضح. الثقل المادي غير مُجرِّدٍ السينما من لعبة الخيال والابتكار. هناك أفلامٌ تستشرف مُقبلاً، لكنّ الاستشراف مختلفٌ كلّياً عن الوحي، لأنّه (الاستشراف) يقول شيئاً عن غدٍ، والقول منبثقٌ من رؤيةِ صانعه/صانعته لراهنٍ وماضٍ. ما يُقال، هنا الآن، لا علاقة له بالتجاري الاستهلاكي، بل بما تعنيه السينما من حِرفةٍ وبهاءٍ وجماليات اشتغال متنوّع المهن. مع هذا، هناك أفلام سينمائية تقول شيئاً أو أكثر من مُقبلٍ، تُنجَز وفقاً للتجاري الاستهلاكي البحت، وهذا تأكيدٌ على عظمة السينما في استباق المُقبل نفسه، وغيره أيضاً.
أنْ يُنجز رومان غافراس فيلماً كهذا (مقتل شابٍ من الضواحي الباريسية، واشتعال حربٍ عنيفة مع الشرطة)، وبعد وقتٍ غير قليل يحصل المُنجَز فيه، فهذا يؤكّد روعة السينما في التعمّق براهن وواقع، وقراءة جذورهما ومساراتهما، وتفكيك كلّ المُرتبط بهما، ما يمنح صانعها/صانعتها قدرة هائلة على استشراف مُقبلٍ ما. هذا ليس "نبوءة"، بل كشفاً معرفياً لمُبطّن يغلي "حالياً"، ولمخبّأ تعتمل فيه نارٌ تدفعه إلى انفجار، والسينمائي/السينمائية يسبقان ذلك لأنّهما معنيّان براهنٍ وواقع، لا لأنّهما "يتنبّآن". الأجمل من هذا أنّ صانع/صانعة فيلمٍ، كـ"أتينا"، منغمسان كلّياً بالذي يحصل في بيئةٍ وحيّز، مكانيّ واجتماعي وحياتي واقتصادي، يرتبطان (البيئة والحيّز) بهوية وهجرة وانسجامٍ/عدم انسجام واندماج/عدم اندماج في المجتمع.
غافراس غير مُتنبّئ، بل يُدرك ذاك الواقع، العائدة جذوره العنفية إلى سنين من مواجهات، مبطّنة ومباشرة، بين مهاجرين ومهاجرات، ودولة لها قيم وأفكار وقوانين، قابلةٌ كلّها للنقاش. لادج لي يُسقِط عنوان إحدى أجمل روايات (1862) فكتور هوغو على راهنٍ فرنسي، خصبٍ بمقوّمات الحاصل حالياً، أو ما يُشبهه، الذي يُمكن حصوله أمس واليوم وغداً، فبذور المواجهة بين الطرفين يتفاقم "عددها".
هذا كلّه يقول إنّ السينما، المتفلّتة من كلّ قيد بشريّ وغير بشريّ، تمتلك الأعظم من التنبّؤ: رؤية المُقبل.