عمدت المؤسسة العامة للسينما في سورية، ومنذ بداية الثورة، انتهاج أسلوب محدد في الأفلام التي تقدمها، والتي تحاول أن تلمّع صورة جيش النظام وأفعاله القمعية التي قام بها ضد المدنيين من خلال قصص، قد يحاكي بعضها الواقع، لكنها في نفس الوقت تشوّهه، وبقيت على هذا المنوال حتى اليوم دون تقديم أفكار قيّمة تحاكي كافة الآراء والأطياف باعتدال، بل بقي التوجيه للكتاب والمخرجين بتخريج أفلام بذات الصبغة الواحدة دون رفع أي سقف للحرية أو التعبير أو التغيير.
سينما محلية الصنع لا تخلو من التشويه
مع وصول أفلام سورية هامة لجوائز الإيمي والأوسكار وجوائز أخرى عالمية أيضاً مثل "الكهف" و"يوم أضعت ظلي" و"إلى سما"، إلا أن كافة الأفلام التي صنعتها المؤسسة العامة للسينما التابعة لوزارة الثقافة في حكومة النظام بقيت داخل الإطار المحلي في قلب سورية، دون أن تشارك في مهرجانات كبيرة أو تصل للعالمية، باستثناء بعض المهرجانات في تونس ومصر. إلا أن العرض بقي محدوداً للجمهور السوري في صالات قليلة الوجود أصلاً، ولا اعتناء فيها. ورغم أن بعض هذه الأفلام كانت جيدة على مستوى الإخراج، إلا أن القصص كانت في غالبيتها تمجد بطولات قوات النظام وتجرّم الثوار، في محاولة فاشلة لاستقطاب الجمهور وإقناعه بفكر النظام. ورغم بعض المحاولات للخروج من بوتقة التلميع من قبل المخرجين كفيلمي "طريق النحل" و"عزف منفرد" لعبد اللطيف عبد الحميد وفيلم "دمشق حلب" لتليد وباسل الخطيب، إلا أن تمرير رسائل النظام في كل هذه الأفلام كانت جليّة، ما جعل الرأي واللون الواحد يسيطر ويصبغ على فكر العمل بأكمله.
المحسوبيات تسيطر على البطولات
وكأن المؤسسة العامة للسينما ليس لديها سوى أسماء معينة للتعاون معها. فإعادة تدوير هذه الأسماء ما زالت قائمة منذ سنوات، وكل مخرج سينمائي يُحضِر معه فنانين من أصدقائه لإنشاء فيلم، فمن جود سعيد إلى عبد اللطيف عبد الحميد إلى أيمن زيدان وباسل الخطيب. وتدور العجلة هكذا في حلقة مفرغة مع فنانين تتكرر وجوههم في كل مرة، ما يجعل المشاهد لا يمل من القصة فقط بل أيضاً من الوجوه التي يراها دوماً، فلكل مخرج الأسماء الخاصّة التي يتعامل معها ولا يغيرها. لذا باتت المؤسسة وكأنها محتكرة من قبل أشخاص معينين يراهم الجمهور دوماً، ونادراً ما تشذ هذه القاعدة. فرغم منح الفرص لتقديم مخرجين آخرين للسينما كسيف الدين سبيعي في فيلم "يحدث في غيابك"، وحازم زيدان في "العين الساحرة"، إلا أن الأفكار بقيت كما هي بلا أي إضافة تذكر، ما تغير فقط هو أسماء المخرجين وبعض الفنانين الأبطال المشاركين في هذه الأفلام الجديدة.
سينما محتكرة من قبل أشخاص معينين يراهم الجمهور دوماً
محاربة الأفلام المعتدلة
لا يحبذ النظام أن يقدم للجمهور سينما معتدلة خالية من أفكاره التي يدسها لدى الناس، لذلك كان يحارب كل فيلم يقدم فكرة وسطية لا تعبر عن وضوح وتماه معه، ورغم أن كثيرًا من هذه الأفلام تم تصويرها في سورية، إلا أنها لم تعرَض في صالاتها إلا بعد أن دارت عدة دول، بل وحصدت جوائز مختلفة خارج البلاد. ففيلم "حرائق" مثلاً للمخرج محمد عبد العزيز عُرض في دمشق بعد ثلاث سنوات من عرضه خارجها. وبعد سنة وأكثر من نيله الجوائز في المهرجانات عُرِض فيلم "الحبل السري" للمخرج الليث حجو والكاتب رامي كوسا أخيراً في سورية. وهذان الفيلمان كمثال فقط لم يقدما سوى أفكار وسطية لا توجه أصابع الاتهام لأحد من القوى المتصارعة في سورية، ومع ذلك كان دخولهما وعرضهما فيها صعباً، وحصل بعد سنوات عن عرضهما خارج حدود البلاد، خصوصاً أنهما أيضاً ليسا من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وبالتالي يخضعان لرقابة مشددة.
الوضع الراهن
حتى اليوم، تعاود المؤسسة العامة للسينما نفس الحكاية من جديد لتقدم قصصاً مصقولة بأفكار النظام تتحدث عن بطولات الجيش وترويع "الإرهابيين" للمدنيين، حيث يقوم المخرج باسل الخطيب بتصوير فيلم جديد بعنوان "لآخر العمر" ويتحدث عن بطولات عسكرية قام بها جيش النظام. في حين يصور أحمد ابراهيم أحمد وربما للمرة الأولى في السينما فيلماً بعنوان "حكاية في دمشق"، وقال في أحد تصريحاته إن الحكاية اجتماعية وبعيدة عن الحرب بتفاصيلها السياسية. ويدخل المخرج ناجي طعمي مضمار السينما أيضاً من خلال فيلم جديد تلعب بطولته الفنانة نادين خوري وهو بعنوان "أنت جريح"، وكذلك يتضح من عنوانه عن القصة التي سيحاول أن يرويها الفيلم والتي تحكي عن الشهداء وتضحياتهم، ويتضح أن القصص ستكون في ذات الدائرة وطريقة التفكير والتقديم الساذجة. أفلام سورية عدة أنتجتها وما زالت تنتجها المؤسسة العامة للسينما كانت ذات لون واحد، ولم تترك أثراً كبيراً لدى الناس أو تصل للمهرجانات العالمية، حيث قدمها النظام على أنها الصورة الصحيحة لسورية في الحرب، وكأنها من المسلمات، متجاهلاً أي رأي أو فكر يعاكسه ويناهضه. فباتت كل القصص المروية على الشاشة الذهبية حبيسة أفكاره وحدوده فقط دون أي محاولة لكسر الصورة السائدة التقليدية عن السينما السورية بمفهوم حديث معاصر يغني الأرشيف الكبير الذي قدمته سورية في المجال السينمائي يوماً. ولذلك، تغيبُ أي أفلام جديدة تترك بصمتها أو تحدث ذاك الأثر، وطبعاً سيبقى الوضع على حاله إن بقي تعنت النظام بتقديم الأفكار عنيداً بهذا الشكل الفج.