استمع إلى الملخص
- **القصة التاريخية**: يعود الفيلم إلى عام 1993، حيث يروي حادثة توقيف قطار والبحث عن المسلمين لترحيلهم، مع التركيز على شجاعة النقيب المتقاعد تومو بوزف.
- **التفاصيل الجمالية والشخصيات**: استخدم سليبسيفيتش تفاصيل صغيرة لخلق جمالية الفيلم، معتمداً على ممثلين محترفين من دول عدة، مما أضاف إلى قوة الفيلم وجماليته.
اقترب "الرجل الذي لم يستطع أنْ يظلّ صامتاً" (2024)، للكرواتي نيبويشا سليبسيفيتش (1973)، من المثالية الفنية، وهذا هدف مشروع يسعى إليه كلّ مخرج سينمائي. تجلّت تلك المثالية في تنوّع الأقطاب الجمالية، وتحقيق منطلقات الفيلم الروائي القصير، ما حفّز لجنة تحكيم مهرجان "كانّ" السينمائي، في دورته الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024)، إلى منحه السعفة الذهبية لأفضل فيلم في نوعه.
انعكست المعطيات في كلّ عناصره تقريباً، نتيجة الفهم الجيّد لأساسيات الفيلم الروائي القصير وخصائصه، كالاختزال الزمني للحيّز الدرامي (14 دقيقة)، رغم تناول سليبسيفيتش قضية معقّدة وخطرة ومؤلمة، وابتعاده عن التلقين التاريخي والمعرفي، وإعادته اكتشاف الألم بأثر رجعي، وسعيه الحثيث إلى خلق صدمة حزن قوية، لجعل المتلقّي يحسّ بأوجاع شخصيات الحادثة التاريخية. في الوقت نفسه، نقل بجِدّ جماليّ تلك الأحداث بروح مسؤولة وخلّاقة، ابتعد فيها عن المُباشَر، الذي يُقدّم المعلومة ولا يُرسّخها، ويقتل الفنّية. سليبسيفيتش، كاتب السيناريو أيضاً، عرف كيف يستغلّ ويستثمر الحادثة الأليمة التي شهدها بلده قبل 31 سنة.
عاد سليبسيفيتش إلى عام 1993، حين كان الصرب يترصّدون كلّ مسلم لقتله، انطلاقاً من عقيدة التطهير العرقي التي اعتمدتها مجموعات عدّة. اقتنص شيئاً من هذا التاريخ، يتمثّل بتوقيف مجموعة مسلّحة قطاراً يقلّ نحو 500 مسافر، فَتّشهم أفرادها طالبين منهم هوياتهم، ليلقوا القبض على كلّ مسلمٍ، ثم يجمعوهم خارجاً، ويُرحّلوهم إلى جهة مجهولة. ورغم أنّ هذا التصرّف غير قانوني، لم ينتقد ولم يواجِه أحدٌ سلوكهم العنصري، باستثناء شخصٍ واحد، غير مسلم، احتجّ وانتقد ضابط المجموعة المسلّحة (أليكسيس مانينتي)، مُقدّماً درساً في الشجاعة، وقائلاً إنّه يُدعى تومو بوزف (دراجان ميتشانوفيتش)، نقيبٌ متقاعد في الجيش النظامي. لهذا سُحِب هو أيضاً مع الآخرين. عنوان الفيلم، الذي أُهدِيَ إلى روحه، يعكس سلوكه البطولي.
لم يذكر سليبسيفيتش تاريخ الحادثة، مُكتفياً بمؤشّرات، منها جهاز موسيقى تضعه فتاةٌ (لارا نيكتش) على أذنها، مع شريط كاسيت، للإشارة بوضوح إلى زمن مضى. هذا تفصيل من تفاصيل صغيرة صنعت جمالية الفيلم. وللدلالة على أنّ القطار آتٍ من مكان بعيد، يستيقظ المسافر دراجان (غوران بوجدان) عند توقّفه، ويظهر عليه التعب، إذْ نام على كرسيّ، وبات شعر رأسه من الخلف مجعّداً، وهذا يُحيل إلى بُعد المسافة.
كما لعبت شخصية دراجان دوراً محورياً، إذْ كان مُولّداً أساسياً للبُعد الدرامي، ومُحرّكاً لتوتّر وقلق وخوف في عربة القطار، بنظراته وأسئلته وإجاباته: مثلاً، عندما سألت الفتاة عن سبب توقّف القطار، وهوية الرجال المسلّحين، أجاب باحتمال أنّهم من القوات المسلّحة: "ربما يبحثون عن الهاربين أو مُهرّبي الأسلحة". ومع استكمال المشهد نفسه، يتّضح أنّهم يقودون رجلاً مُتقدّماً في السنّ، لا يقوى على السير، ويستند على عصاه. هكذا تُنسف احتمالية إجابة الرجل، وتُطرح أسئلة أوسع عن هويّتهم. ومع تقدّم الفيلم أكثر، تُدقِّق تلك المجموعة بالانتماءات الدينية للمُسافرين، ويُسحب كلّ مسلمٍ وكلّ من لا يملك هوية (هناك معطيات تُبيّن نيّة التطهير العرقي). معطيات قليلة تشير إلى تصفيتهم، وهذا مُثبت تاريخياً خارج سياق الفيلم، ففيلمٌ قصير لا يتمكّن من الذهاب خلف كلّ حادثة وإظهار تفاصيلها، بل يكتفي بإشاراتٍ وطرح أسئلة، بينما يبحث المتلقّي عنها لاحقاً.
"الرجل الذي لم يستطع أنْ يظلّ صامتاً" جيّد ومتماسك وقوي، استطاع مخرجه تقديم درسٍ بليغ في صنع الفيلم القصير، بمعرفته بكيفية خلق معطيات صغيرة وتنسيقها وبلورتها وفق سياق درامي مُعيّن، شكّل بها انسجاماً كلّياً يترك أثراً عميقاً لا يُمحى بسهولة. ولصنع هذه الأبعاد، عرف كيف يوظّف الحادثة التاريخية، موفّراً لها المتطلّبات الضرورية، ولعلّ أهمها، بعد السيناريو، تنويع الممثلين، والاعتماد على مُحترفين من دول عدّة، كالفرنسي أليكسيس مانينتي، والبوسني ـ الكرواتي غوران بوجدان، والصربي دراجان ميتشانوفيتش، ولجميعهم تجارب سينمائية كبيرة ومهمّة، فخَدَم أداؤهم المحترف فكرة الفيلم وجماليته.
كما أعاد الفيلم تقليب صفحة من صفحات التاريخ الأسود، موجعةً ومليئةً بأحداث أليمة ضد المسلمين في دول البلقان، تتمثّل بالإبادة الجماعية والقتل والإخفاء القسري والتصفيات العرقية، وما اتصل بتلك الوقائع في مختلف الأعراق.