الدراما العربية... ابنة العصر الرقمي الضالّة

02 ديسمبر 2024
إقبال عربي على المنصات الأجنبية مقابل محدودية الاشتراك في المنصات المحلية (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعاني الدراما العربية من عدم مواكبة التكنولوجيا الحديثة، مما يحد من قدرتها على المنافسة العالمية ويجعلها تعتمد على تقليد المسلسلات الأجنبية دون تحقيق نفس مستوى الإبداع.
- مع دخول المنصات الرقمية مثل "نتفليكس" و"HBO"، أصبح التنافس على جذب المشاهدين أكثر شراسة، بينما تعاني المنصات العربية من قلة المشتركين بسبب عدم تقديم محتوى جذاب.
- تواجه الدراما العربية تحديات في تقديم محتوى يعكس الواقع الاجتماعي والثقافي بشكل صادق، وغالباً ما تُهاجم بتهمة تزوير الواقع، مما يعيق اختراقها للأسواق العالمية.

لم تتوقف الدراما العربية للحظة تفكير أو سؤال، حول أي عصر تعيش، أو في أي عصر يجب أن تعيش. فها هي سائرة من حكاية، إلى صورة، فبث، من دون أي التفاتة إلى واقعها أو إلى أي فعالية تنتمي. من البديهي أن الاستخدام المجدي والآمن لتكنولوجيات العصر يجب أن يترافق بمعرفة تكنولوجيات هذا العصر وثقافته. إنما ليس العلم بها فقط، فتشغيل التكنولوجيات ليس أحجية، ما دامتْ صُنعت لتسهيل الشغل الحرفي على صناع أي سلعة، وهذا يتطلب أن يكون الخزين المعرفي متقارباً مع ما تختزنه هذه التكنولوجيات من ثقافة وعلوم. وهذا لا يتوقف عند علوم الميكانيكا أو العدسات أو الإلكترونيات، بل يجب تمثّل الحالة التي تسبّب إنتاج تكنولوجيات كهذه لخدمة صناعة الفن من سينما وتلفزيون، لا بل المسرح والإذاعة أيضاً.
وإذا كانت الدراما العربية ابنة عصرها، أي ناتجة عن ثقافة موازية لثقافة إنتاج التكنولوجيات، فنستطيع القول إنها أعمال قادرة على المنافسة العالمية، إذ إن هذه التكنولوجيات جعلت من العالم قرية مفتوحة على المقارنات الجمالية والانتفاعية بين المصادر الكثيرة لصناعة المسلسلات التلفزيونية.
من هنا يبدو سؤالنا الآنف مشروعاً، مع دخول المنصات الرقمية إلى سوق العروض التلفزيونية، وتجذره مزوّداً للسلع الترفيهية ومنها الدراما التلفزيونية، حيث لا يبدو الصراع/التنافس، بين هذه الأعمال الدرامية موقوفاً على استجلاب الزبائن وتأمين أرباح كافية لإعادة الإنتاج واستمرار البث فقط، بل يتعدى ذلك إلى الاستحواذ والسيطرة على خيارات المشاهدة، حيث تبدو هذه الخيارات محكومة بالأكثر إدهاشاً وبالأكثر جدةً في سرد ما هو متوفر في إمكانيات الإبداع المحلية لكل أطراف التنافس، من دون الخوف على الخصوصية المبجلة، لأنها ستظهر إجبارياً في أي عمل إبداعي، شاء المبدع أو أبى.
وعلى هذا الميزان "الأولي" فقط نلحظ رجحان كفة ميزان الأكثر تمثلاً للحالة الثقافية لهذا العصر، لهذا نرى أن مشاهدي منصة نتفليكس وحدها يتجاوز 280 مليون شخص بكثير (على اعتبار أن كل مشترك يحق له مشاركة حسابه مع آخرين). تعرض "نتفليكس" الإبداعات المحلية التي تعكس خصوصيات مجتمعاتها، ولكن بطريقة أكثر إغراء للمشاهدة، بحيث تصبح هذه الخصوصيات قابلة للتصدير لأماكن هشة وخائفة ثقافياً ومعرفياً، ومنه نلحظ اهتمام المشاهد العربي بهذه المنصات المتكاثرة، ومنها "إتش بي أو"، بينما لم يتجاوز عدد مشتركي أي منصة عربية الـ4.5 ملايين مشترك. 
وهذا ليس عيباً بحد ذاته إذا انتبهنا إلى الحواجز اللغوية بين الدرامات، وذلك بحسب اتساع رقعة انتشار هذه اللغة أو تلك. لكننا نتكلم هنا على نصف مليار ناطق بالعربية جزئياً أو كلياً، بالإضافة إلى انفتاح حاجز اللغات عبر الدوبلاج أو الترجمة بالكتابة أسفل الشاشة (subtitles)، ما يحيلنا إلى البحث عن أسباب أخرى، تجعل من تنافس الدراما التلفزيونية العربية محدوداً إلى هذا الحد.
الأسباب الأخرى تتضح تباعاً، ومهما كانت نسبة تقليد المسلسلات الخارجية كبيرة، فتنفيذ هذا التقليد (كتابةً، وتمثيلاً، وإخراجاً، وإنتاجاً) يحتاج إلى نوعية معاصرة (ثقافةً، وسلوكاً، ومعرفةً) من صناع هكذا أعمال، وهنا أشير إلى الرقيب الثقافي الداخلي الطوعي الذي يسكن كيان الغالبية العظمى من صناع الأعمال الدرامية التلفزيونية. عملياً هم لا يعرفون في أي عصر تكنولوجياتي نقيم، فما يستطيعون تقديمه هو في حقيقته من عصر معرفي آخر، يكيفون التكنولوجيات عليه، فتفقد الكثير من ميزاتها الإدهاشية، ومن ثم فرملة الإقبال عليها، لتعود إلى مهمتها البدائية أي تعليم المشاهد ما لا يعلم، حيث لا خيار للمشاهد سوى الأخذ بالعلم والخبر عن حدوث ما قد يحدث في الحياة، وهذا في عصرنا الحالي، لا يساوي الكثير من الدهشة، ولا الكثير من الإقبال إذا ما حصل تنافس ما، ولنا في المسلسلات التركية خير مثال، إذ نقلت مسلسلات تركية إلى العربية، أزاحت الكثير من الأعمال العربية، وقامت بتسويقها، في منافسة تجارية مفتوحة (في المنصات والمحطات) لم يسمع عنها منتجو الأعمال العربية، فأين يكمن الخلل يا ترى؟
على الرغم من أن هذه المسلسلات لم تتجاوز الرقابات العربية بالشكل الخارجي، فقد استطاعت سرد حكاياتها البصرية بطريقة أفضل من تلك المصنوعة بأيد عربية. هذا ولم نأتِ على سيرة المسلسلات الأخرى، كالكورية الجنوبية أو الماليزية والإندونيسية، منتقلين إلى مسلسلات إنكليزية أو سويدية، وكلها جاذبة للاشتراك والتلقي، لأن ما فيها غير موجود في الأعمال العربية، إن كان من حيث المحتوى، أو من ناحية الشغل الفني المبهر، وحتى من ناحية الرقابة المشددة.

ولا ننسى ماذا حصل مع عملين عربيين أنتجتهما "نتفليكس" في الأردن، هما "جن" (2019) و"مدرسة الروابي" (2021) اللذان قوبلا بتعنيف كثير في الصحافة وعلى مواقع التواصل، على الرغم من عكسهما لواقع المجتمع. لكن إنكار هذه الوقائع يبدأ من صناع الدراما العربية السائدة التي تحولت إلى هواة النوع، أو دراما ربات المنازل.
لا شك أن هناك محاولات لصناعة دراما تلفزيونية معاصرة شكلاً ومحتوىً (هناك محاولات مصرية جادة على هذا الصعيد)، إلا أنها طالما هوجمت بضراوة لاتهامها بتزوير الواقع والمسكوت عنه تحديداً، وهذا ما يفشل المحاولات التنافسية العربية لاختراق أسواق المشاهدة عبر المنصات الرقمية التي تعرض في الكثير من الأحيان أعمالاً مبهرة، تستحوذ على اهتمام المتلقين لفترات طويلة، لأنها ببساطة ابنة عصرها المعرفي.

المساهمون