يقدم التقرير المصوّر الذي عرضه تلفزيون النظام السوري قبل أيام حول عودة أهالي مدينة الحجر الأسود المهجرين (جنوبي العاصمة دمشق) صورة مكثفة وواقعية لطريقة تعامل النظام السوري سياسياً وأمنياً مع هذه المناطق التي يعتبرها معادية له.
ففي التغطية التي قدمها التلفزيون الرسمي، واكبت المذيعة هديل جعفر عودة الأهالي متجولة بين الأنقاض، كما التقت بعدد قليل من السكان الذين تمكنوا من العودة، مفضلين العيش بين الأنقاض ومن دون أي خدمات على مواصلة دفع تكاليف الإيجارات الباهظة في محيط دمشق.
تبدأ المذيعة تقريرها بإبلاغ الأهالي أن "الإرهاب" هو السبب في تدمير بيوتهم، علماً أن هذه المدينة على غرار مناطق أخرى عدة، دمّرها قصف الطيران والمدفعية والدبابات التابعة للنظام من دون مبررات عسكرية حقيقية، إذ إن عدد مقاتلي تنظيم "داعش" فيها كان قليلاً جداً، وكان هؤلاء مجردين من السلاح الثقيل، وبالتالي كان يمكن القضاء عليهم من دون تدمير كامل للمدينة. وهو ما فعله النظام أيضاً في مخيم اليرموك المجاور، حيث تعمّد تدميره من دون دواع عسكرية، وذلك بهدف عرقلة عودة أهالي المنطقتين إليهما، في إطار خطط التغيير الديموغرافي التي يعتقد أن النظام يعمل عليها في جنوبي دمشق لتحطيم ما يعتبره بيئة حاضنة للمعارضة ضده.
وفي جولتها في المدينة تحاول المذيعة منح الهواء للسكان العائدين الذين تنهال شكاويهم من غلاء الأسعار، وغياب مقومات الحياة وعلى رأسها مياه الشرب، إلى جانب تراكم الأنقاض ما يعرقل حركتهم. لكن رد جعفر جاء متعالياً وفجاً، إذ لامت الأهالي على عودتهم إلى مدينتهم رغم عدم قدرتهم على ترميم منازلهم "إذا كنتم غير قادرين على إصلاح بيوتكم، فمن المؤكد أن الجهات المعنية لن تصلحها نيابة عنكم". ثم تنتقل لتبرير البطء الشديد في رفع الأنقاض قائلة إن الجهات المعنية تحتاج إلى المزيد من الوقت، متناسية أن النظام استعاد المنطقة منذ عام 2018، أي كانت لديه 4 سنوات لتنظيف المنطقة التي لا تتجاوز مساحتها كلم مربع واحد فقط.
طبعاً يدرك الأهالي هذه الحقائق، لكنهم لا يجرؤون على التصريح بها بل يقفون أمام المذيعة موقف الضعيف المتهم، رغم لا منطقية اتهاماتها، وتحليلاتها المنفصلة تماماً عن الواقع. فتارة تحمّلهم مسؤولية حماية مدينتهم من تعرضها للسرقات المتكررة، وتارة أخرى تتجاهل ارتباط السارقين بقوات النظام، رغم أن المسروقات تنقل بواسطة شاحنات صغيرة ارتباطاتها السياسية معروفة للجميع.
ورغم لامنطقية تعليقات جعفر، فإنها واصلت استعراضها المستفز طيلة الوقت، مكررة على الهواء اتهامات واستنتاجات من وحي خيالها، حتى حين التقت بـ"أمين فرقة حزبية" اختارت التعامل معه كمسؤول حكومي رغم بساطته وشكواه من الأوضاع الحالية في المدينة، مكرراً أن الجهات الرسمية لا تتعاون مع السكان العائدين، بينما كان جوابها دائماً موحد: الحق على الإرهاب.
ومن المسؤول الحزبي إلى رئيس البلدية، اختارت هديل جعفر تحميل مسؤولية التقصير لهذا الأخير، رغم أن لا سلطة حقيقية لأي بلدية، كما أنها لا تمتلك الآليات اللازمة للمساعدة على رفع الأنقاض، لكن جواب جعفر كان جاهزاً، وخارجاً عن سياق الحوار "إذا كنتم غير قادرين على تأمين الخدمات لماذا سمحتم للناس بالرجوع؟". طبعاً صمت رئيس البلدية، إذ لا يمكنه الإشارة إلى الإهمال المتعمد من الجهات المعنية، وعدم اكتراثها بإعادة تأهيل المنطقة وحمايتها من السرقات (التعفيش)، مشيراً إلى أن الإنجاز الأهم الذي تحقق في إطار إعادة تأهيل المرافق وهو ترميم مدرسة وتركيب طاقة شمسية لإنارة الشوارع العامة، بالتعاون مع منظمات دولية، وليس عبر مؤسسات النظام. ووفق كلام رئيس البلدية، فإنه يسكن المنطقة اليوم 110 عائلات فقط، بينما هناك موافقات أمنية لـ 730 موافقة (أمنية) عائلة من أصل نحو 400 ألف نسمة سكنوا المنطقة قبل عام 2011.
قد يبدو هذا التقرير عادياً ومكرراً على شاشات الإعلام السوري الرسمي، لكنه في الحقيقة يعكس حقد النظام على هذه المنطقة وغيرها من المناطق التي وقفت في وجه إجرام النظام، ورفضت الخضوع عام 2011. هذا الحقد الذي ترجم مباشرة على الهواء بنظرات هديل جعفر المتعالية، وتعاملها الفوقي مع السكان العائدين بعد سنوات من التهجير والنزوح والخوف، محملة إياهم مسؤولية المأساة التي يعيشونها حتى اليوم.