البودكاست... هل يمكن أن يكون عملاً فنياً سمعياً؟

25 يونيو 2023
يستحيل المُنتج السمعي إلى عمل فني أقرب إلى مؤلّف موسيقي (Getty)
+ الخط -

بمبادرة ورعاية من مؤسسة "المورد" الثقافية، وبالشراكة مع المجلس الثقافي البريطاني، استضافت العاصمة اللبنانية بيروت في 14 و15 من يونيو/حزيران الحالي، ملتقى التدوين الصوتي العربي، أي البودكاست، وذلك بإطلالة جيوثقافية على عموم المنطقة الجغرافية والمهجر الناطقين باللغة العربية. شارك في المؤتمر عدد من الجهات والأفراد الفاعلين ضمن هذا المجال. وخلاله، ناقش الضيوف الإمكانات والتحديات إزاء سُبل تطوير وتفعيل الوسيط الوليد.

لم يغب عن أذهان المتحاورين واقع تحوّر البودكاست عن الراديو في زمن الإنترنت، فكلتا الوسيلتين الإعلاميتين تعتمدان الصوت وسيطاً للتواصل مع المتلقي، ونقل المشاعر والأفكار إليه. إلا أن ثمة مزايا قد تتجه بالبودكاست إلى التبلور بوصفه موفِّراً لخبرة استماعٍ فريدة، تُكسبه كموناً تعبيرياً وأفقاً إبداعياً. الأمر الذي يجعل منه شكلاً هجيناً واعداً يجمع الفن السمعي بالإعلام.

بات في مقدور البودكاست أن يهب المستمع تجربة انغماسية

أول تلك المزايا، هي استقلال البودكاست في الزمان وفي المكان. لئن اعتمد الراديو في تواصله مع المستمعين البث المباشر وجدولة البرامج السمعية على مدار اليوم والأسبوع، فإن متابعة البودكاست ممكنة في أي وقت وأي مكان، طالما توفّر شرط الاتصال بشبكة الإنترنت. علاوة على إمكانية تحميل المُنتج السمعي في أغلب الأحيان، ومن ثم حفظه كوثيقة أو مقتنى بحوزة المستمع، له أن يعود إما إلى استئناف، أو معاودة الاستماع إليه متى وأنّى شاء، حتى من دون إنترنت.

ثاني المزايا هو شكل العلاقة البين ذاتية (Inter-subjective)، التي تجمع مُبدِع البودكاست بمُتلقّيه. بينما يتوجه الراديو إلى جمهور عام بنيّة مخاطبته أو نقل شهادة أو توجيه رسالة يُؤقَّت لها موعدٌ محدد للبث، فإن استقلالية البودكاست في الزمان والمكان، تتيح أمام المستمع أن يخرج عن مجموع الجمهور وينفرد بحالٍ خبرويّة (Experiential).

بدوره، فإن خيار المستمع الواعي والفردي بأن يُنصت إلى بودكاست دون غيره في موعد يُحدده هو، له أن يؤثر على طرف الإنتاج البودكاستي شكلاً ومضموناً؛ إذ تميل النبرة إلى البوح أكثر منها إلى الخطابة، فيما يُميّز المحتوى منظورٌ ذاتي خاص، حتى وإن جرى من خلاله تناول مواضيع عامة، الأمر الذي يعزز من حضور اللهجات المحكية على حساب اللغة الفصحى.

 
أما الميزة الثالثة، فتكمن في البيئة التكنولوجية التي نشأ فيها البودكاست وما زال يكبر ضمنها. منذ ظهور لاعب الملفات الصوتية الرقمية النوعي لشركة آبل سنة 2001، المدعوم بمنصة إنترنتية لتحميل مواد سمعية والمعروف بـ"آي بود" (iPod) ثم وصولاً إلى الهاتف الذكي، ارتبط سماع الموسيقى عموماً والبودكاست ههنا، بجهاز خفيف محمول وسماعات تتحلق حول الرأس أو تلج الأذنين.

لئن شهدت مؤخراً تقنية إلغاء الضجيج التي باتت تُزوّد بها السمّاعات الحديثة تقدماً نوعياً في توفير مستوى من العزل عن أصوات الخارج، فقد بات في مقدور البودكاست أن يهب المستمع تجربة انغماسية (Immersive) تمنح صانع المحتوى فُرصة الحلول بذات المُتلقّي، وعليه، اعتماد وسائل جمالية لا تقف عند تيسير إيصال المضمون، وإنما تولي الشكل والكيفية عناية خاصة، ليستحيل المُنتج السمعي بذلك إلى عمل فني أقرب إلى مؤلّف موسيقي.
 
لا تتيح التكنولوجيا الحديثة وحسب إنشاء الفضاء البين الذاتي الذي يشترك من خلاله كل من متلقّي البودكاست ومنتجه، وإنما أيضاً توفّر للأخير الحلول الإبداعية لتأثيث ذلك الفضاء مشهدياً، وعليه، يُصبح البودكاست مسرحاً سمعياً للقصّ. على خشبته، يلعب تصميم الصوت بمنهجٍ ثنائي الأذن (Binaural) دوراً تعبيرياً في تحديد أبعاده الفراغية. وذلك عبر اعتماد تقنّيات التردّد (Pan) والتحلّق (Surround). بواسطتها، تُنوّع الجهات التي قد يرد عنها الصوت سواءً إلى كلتا الأذنين أو إلى واحدة في آن دون الأخرى.

بمجرّد أن تتوفرّ الأدوات التشكيلية اللازمة للقصّ، تتوفر معها الإمكانية لتشييد بناء سردي طيّع مرن، وذلك بفضل طبيعة الصوت السائلة والزائلة. غالباً ما يضطلع الراوي (Narrator) بمهمة تلاوة الأحداث، وبالتالي تحديد مسارها بصورة خطية. إلا أن ثمة دوماً مساعي خلاقة تهدف إلى تفكيك مركزية صوت الراوي، وبالتالي، تشييد بناء سردي لاخطي (None linear). غربياً، يبرز البودكاست الأميركي الشهير مختبر الراديو (Radiolab) للمؤلف والمنتج اللبناني الأميركي جاد أبو مراد مثالاً وضّاءً.

أولاً، يعمد أبو مراد وفريقه الإنتاجي إلى توزيع مهمة الراوي على عدة رواة، بدلاً من التمركز حول صوتٍ واحد. من جهة، تسمع القصّة وهي تتداول بين أصوات عدّة، من الأصوات مَا يُقدّم انطلاقاً من حجرة الاستوديو ومنها ما يُسجّل ميدانياً سواء لمن خَبر شخصياً القصة أو جزءاً منها، أو من كان خبيراً في جانب من جوانبها.

ثانياً، يلجأ البناء السردي لـ راديو لاب إلى إدماج تعليقات المتحاورين ليستحيلوا مشتركين بالقص، مُسجلاً ردود أفعالهم صوتياً. أخيراً، وبفضل السلاسة الفائقة للمونتاج الرقمي (Digital Editing) يُشكّل المُنتِج الفني المروية عن طريق التلاعب بنوعية الصوت المُسجّل، وبالتالي تنويع مكامن توظيفه ومظاهر وروده سواءً لجهة الطابع واللون، أو لجهة التوقيت والتركيب.

عربياً، يقترح بودكاست "معبر" اللبناني، من إنتاج أنطوني الطويل وسيدريك القيّم، حلاً إبداعياً آخر إزاء تفكيك سلطة الراوي على المروية؛ إذ يتشيّد عمران البودكاست الذي يتناول الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) بصورة لاخطية تُزيل محور الراوي كلياً، وتكتفي بركن الشهادات الشخصية لأفراد عاشوا ظروف الحرب جنباً إلى جنب، ثم ربطها بوتد درامي مصنوع من نُسج موسيقية لها شكل "مسارات لحنية" (Soundtrack)، يُعزز من الوقع الشعوري للقصة.

بالنظر إلى الصوت بمظاهر أدوتته المتعددة (Instrumentalisation)، أكان صوت راو أم صوت بيئة سمعية، أو مادة موسيقية، على أنه مجموع عناصر تشكيل سمعي، ثم الأخذ بإمكانية أن يكون القصّ أحد أغراضه الأساسية، يغدو البودكاست مرشّحاً لأن يكون عملاً فنياً، له عمران درامي فضاؤه الحميمية البين ذاتية، يمكن أن تصدر عنه شحنة عاطفية وأن يتضمن حمولة فكرية.

يبقى من نافل القول الإشارة إلى أن المقصود بالبودكاست في هذا السياق هو ما ورد في عنوان الملتقى الذي نظمته "المورد"، أي التدوين الصوتي، لا الحوارات المصورة التي باتت تعجّ بها منصة يوتيوب، أي أنه بوصفه ذاك الجنس الفني Genre القائم على السماع بتصويت الصورة، ليس الوسيلة الإعلامية القائمة على المشاهدة والاستماع من خلال تصوير الصوت.

بهذا، فإنه يبرز فرصةً لاستعادة إرث المشافهة الأصيل عميق الجذور في الثقافة العربية، وذلك من خلال الاقتصار على جماليات الصورة المُتخيّلة والكلمة المسموعة، عوضاً عن استيعاب جماليات الصورة المرئية والكلمة المقروءة، الأمر الذي يُبقي قوة أثره كامنةٍ في محدوديته.

المساهمون