الاستيلاء الثقافي على يوهان سيباستيان باخ

01 مارس 2021
+ الخط -

كنت لا أزال في سنّ الخامسة حين بدأت أُدمن الاستماع إلى "الفوغ الصغير"، مقام صول الصغير، للمؤلف يوهان سباستيان باخ (1685- 1750). وتلك واحدة من مؤلفاته السلسة والرائجة، التي تعتمد أسلوب البوليفوني Polyphony (أي تعدد الأصوات)، كُتِبَت في الأساس لآلة الأورغن، ومن ثم وُزّعت لتشكيلات آلية مختلفة، منها نسخة لخماسي نفخيّات ضمّ كلا من الفلوت، الأوبوا، الكلارينيت والباصون والهورن، وسُجّلت على أسطوانة بعنوان "باخ: مختارات من أشهر المقطوعات"، كانت تعود لخالي المقيم في الكويت. ظلت تعتلي رفّ المكتبة في بيت جدتي في حي المزرعة بدمشق، ريثما يعود ليزورنا في موسم الصيف، فتدور من جديد ومن دون توقف، تلبية لإلحاحي المستمر، على صحن المُسجّلة.

منذ ذلك الوقت، وموسيقى باخ بالنسبة لي صوتُ الوجود والصَدَفة المرنان التي أُنصِت بها إلى العالم داخلي ومن حولي. كرّاس مؤلفاته الستة، من سوناتات وبارتيتات لآلة الكمان المنفرد، لم يكن المحطة، وإنما العربة التي على متنها سِرت في مشواري الفنّي، الدراسي والمهني؛ بإعجازها وإنسانيتها، بماديّتها وروحيّتها، وبتوحيدها فيَّ لكلٍّ من العاطفي والفكري في رحاب عمارتها الكونية القائمة بأوتار الكمان الأربعة، صار عزفها بمثابة جلسة التأمل الصباحية في كلّ يوم.

 


   
ليس سهواً، جهلاً، أو سذاجةً، وإنما بمقتضى اختلاف روح العصر وخطابه، لم تكن الهوية وتمايز البيئة واللغة والثقافة، أيام الصبا زمان تسعينيّات القرن الماضي، لتشكّل أيّ منظورٍ أرسم من زاويته علاقتي بباخ وموسيقاه، هو المولود في المدينة الألمانية آيزناخ Eisenach، وأنا المولود في العاصمة السورية دمشق، تفصل بيننا قارتين، قرابة ثلاثة قرون، وثلاثة آلاف من الكيلومترات، بيننا الموسيقى وحدها، ما يُوثق الصلة ويأصر القرابة.
  
لم يكن باخ ليُدرك أنه ألماني أو حتى أوروبي، هو من رعايا دوقيّة ساكسونيا اللوثريّة التي كانت جزءاً مما يُدعى بالإمبراطورية الرومانية المقدسة Holy Roman Empire، في قارةٍ تعددت بها الممالك والإمارات والكنائس لعقود من الزمن، قبل تبلور أي ملامح هوية قومية بارزة. أما أنا، فقد اختلطت عليّ أصول أسرتي الألبانية المهاجرة ("الغربتليّة" بتعبير الشوام) بواقع ولادتي ونشأتي في سورية حزب البعث العربي الاشتراكي، وحال الازدواجية التي عشتها جراء جدلية الانتماء الملتبس إلى "القطر العربي". وفي نفس الوقت، "الوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج".

ثم إن سائر الدول، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بما فيها تلك التي ادعت عدم الانحياز، كانت قد تموضعت جهة واحدةٍ من قوّتين عظمتين أخذت تُسيّران النظام العالمي، هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. لكلّ منهما عقيدة توسعية خارقة للحدود المحلية، واحدة اشتراكية وأخرى رأسمالية، رأت في العالمية إطاراً ثقافياً فاتحاً، نُظر من خلاله إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية على أنها إرثٌ كونيٌّ، وإلى مختلف موسيقات الشعوب بصفتها تراثاً للإنسانية جمعاء.    

إلى أن جاء التاريخ، أول الألفية الثالثة، بمتحوِّلات أخذت تُغيِّر المشهد السياسي، وبالتالي، الثقافي. انهار الاتحاد السوفياتي وتراجع الخطاب الإنساني العابر للدين والهوية والطبقة الاجتماعية الذي تبنته الاشتراكية عقوداً طويلة. تسيّدت الولايات المتحدة العالم لفترة وجيزة، إلا أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001  وحال الرُهاب المزمن الناتجة عن الصدمة، والخبط عشواء في جوٍّ من هستيريا عسكرية تحت عنوان "مكافحة الإرهاب"، أحدثت كلها تغيرات عميقة سواءً في سياساتها الخارجية ورؤيتها لدورها على الساحة الدولية، أو في بنيتها الاجتماعية.

تزامن كل ذلك مع إشراقة شمس الثورة البشرية الرابعة المتمثّلة بالطفرة التكنولوجية على الأخص في مجال الاتصالات. من جهة، عُقد الأمل على عولمة مدفوعةً بأعجوبة الإنترنت في دمقرطة كوكب الأرض وزوال الحدود بين البشر ونشوء أمة كونية واحدة. من جهة أخرى راهنة وأكثر تشاؤماً، تبدو التكنولوجيا، في المدى القريب على الأقل، مصحوبة بسلسلة أزمات اقتصادية وإجهاضات حراكات شعبية، علاوة على صعود قوى دولية تطرح نماذج بديلة عن الحرية الفردية والديموقراطية الليبرالية أو الاجتماعية، كما لو أنها بدأت تُصيب البشر بحال من الاغتراب مصحوبة بقلق هويّاتي محموم، وهوس البحث عن إجاباتٍ لأسئلة مفترضة حول من نكون؟ ومن هم الآخرون؟

فجأة، وكما هي عادة الظواهر التاريخية، حين تبدو كما لو ألمّت بنا بغتة، لمجرّد ما كنا عليه من غفلة عن تشكّلاتها السارية وتفاعلاتها الجارية، صارت الحدود تُرسم مرّة أخرى وعلى نحو أحدّ وأشد عزلاً وإقصاءً من أيّ وقت مضى، بحيث أن حرية العبور بين الهويات والثقافات والطقوس والعادات، وحتى اللغات واللهجات، وجميع أنماط الإبداع الإنساني من أدب وفن وموسيقى، باتت تُرصد وتُراقب، لتُنقد وتُقّيد وتُحاسب، تحت طائلة ما بات يُعرف بتهمة "الاستحواذ الثقافي"، أو الاستيلاء الثقافي Cultural Appropriation.

والاستيلاء الثقافي، كما يدلّ الاسم ويشير، يتمّ عندما يلجأ أحدهم، فرداً كان أم جماعة، من هوية عرقية، دينية أو ثقافية يُفترض أنها مُعيّنة ومتجانسة، إلى الاستيلاء، سواءً بالاقتباس والاستعارة المباشرة، أو حتى بالاستلهام والاستيحاء المُضمَر والمتواري، على مادة ثقافية من إنتاج هوية أخرى، يُفترض بدورها أن تكون صافية نقية. مادةٌ، لها أن تكون لُغة أو لهجةً أو زيّاً من الأزياء، طريقةً في الرقص، طقساً في العبادة، أو ممارسة جرت عليها العادة. وفي مجال الموسيقى، هي لحن أو إيقاع، أو حتى أسلوب في الأداء.

واحدٌ من أكثر الآراء جِدّة ورواجاً وإثارة للجدل في التنظير لتُهمة الاستيلاء الثقافي هي تفسير "الحميمية" Intimacy التي تُميِّز العلاقة بين أفراد جماعة ثقافية في ما بينهم وعلاقتهم بمواد ثقافتهم. عُرضت الفكرة ضمن ورقة بحثية حررها كل من الأكاديميين سي تي نوين C Thi Nguyen وماثيو سترول Mathew Strohl كانت قد نُشرت في مجلة الدراسات الفلسفية Philosophical Studies سنة 2019 بعنوان "الاستيلاء الثقافي وحميميّة الجماعات" Cultural appropriation and the  intimacy of groups.

اعتمد الباحثان تشبيهاً تبسيطياً للجماعة الثقافية بزوجين مُتحابّين. مع مرور الوقت وبحكم العلاقة العاطفية التي تربطهما، قد يبدأ كلٌّ من الزوجين بإطلاق أسماء خاصة على بعضهما من باب التحبب. فكما لا يجوز، في هذا السياق، لشخص ثالث خارج الحلقة الخاصة أن يستخدم أثناء مخاطبته الزوجين ألقاب التحبب تلك، أو أيّا من مفردات لغتهم الحميمية؛ لا يُسمح لجماعة باستخدام أيّ من المواد الثقافية لجماعة أخرى.

على الرغم من أنني لم أزر آيزناخ إلا سائحاً، أسأل هنا: ترى ما الذي يبوح به ابنها لأهلها ولا يجوز أن أردده أنا؟ بالرغم من أنني لم أختر ألمانيا بلداً إلا مؤخراً، أتساءل: كيف ينادي باخ أبناء جلدته؟ كيف تُخاطب موسيقاه الألمان بالولادة من دون أولئك الوافدين بالهجرة؟ بالصدفة أو الرغبة والإرادة؟ لقد عرفت باخ في دمشق منذ أكثر من ثلاثين عاماً، تحاورنا وتجادلنا وتسامرنا معاً، شكوت له واستمعت إلى شكواه، دمعت لدمعته وابتسمت لابتسامته، لقربي منه أجرؤ على القول: إن لا حميميّة أخصّ وأعمق من تلك التي لنا، ولا أقرب إلى القلب وأدنى من الأذن، مما تبوح به موسيقاه.

يتصدّى لـ "الحميمية" وسيلةً لتفسير وتبرير الاستحواذ الثقافي كل من الأكاديميين لوارا فيراسيولي Luara Ferracioli وسامويل شبال Samuel Shpall كلاهما متخصصٌ بالفلسفة السياسية من جامعة سيدني. في حوار مع إذاعة ABC الأسترالية يكشف الباحثان عن مواطن الرخاوة والضعف في الطرح أعلاه، فمن جهة، العلاقات التي تجمع أفرادَ أي جماعة، لهي أكثر تنوعاً وتعقيداً من تلك التي تربط أيّ زوجين، ومن جهة، لا جماعة ثقافية متجانسة نهائياً، على رأسها سلطة مطلقة مُجمع عليها كلياً، لها أن تنوب عن الكل في منع وإجازة عبور أيّ من المواد الثقافية منها وإليها.

من باب السلطة ذاته، تدخل تهمة الاستحواذ على السجال السياسي الحالي، حيث إن طبيعتها المائعة والفضفاضة تسمح لها بأن تستميل كلا من القُطبين؛ فاليمين الهويّاتي المُحافظ والصاعد يراها ذريعة إقصاء إضافية، واضحة وجليّة بغية الوصول بالثقافة المحلية إلى أقصى درجات الصفاء والنقاء. أما اليسار القائم على إرث اشتراكيةٍ كانت تباهي بإنسانيتها وعالميتها، صارت اليوم تتمثّل بنمطٍ تقدّمي من الهويّاتية السياسية، إقصائي بدوره، من خلال ما بات يُعرف بثقافة الإلغاء Cancel Culture.

يرى أنصار ثقافة الإلغاء أن الدافع إلى الاستحواذ ينبع من إحساس عرقٍ أو إمبراطورية أو حضارة بالتفوّق إثر امتلاك أسباب القوة في لحظة تاريخية، مما يخوّلها، من دون حق، أن تستورد وتستعير وتقتبس من ثقافات الآخرين، على الأخص أولئك الرازحين تحت، أو العائشين في كنف سلطاتها العسكرية أو السياسية والاقتصادية، وحتى الثقافية. وبالتالي، يجدر بمسيرة اجتثاث الكولونيالية Decolonisation جعل حقُّ تمثيل الجماعة ثقافياً حكراً فقط على أعضائها.  

بهذا، تُصبح كل جماعة السيّد الحصريَّ على مواد ثقافتها، سواءً بالحفظ أو الممارسة والمناقلة، وأي رغبة إنسانية محض طبيعية، تمليها دوافع الفضول والاكتشاف والتعاطف، بالعبور من وإلى ثقافة مختلفة، سيُمثّل، بحسب رأي هؤلاء، اعتداءً على تلك السيادة وشكلاً من أشكال العنصرية. من شأن ذلك أن يحدّ من حرية الحركة الإبداعية بين الثقافات، فيخشى البيض من استخدام مواد ثقافية تخص الأعراق الأخرى، وبالمقابل، سيلتزم الملوّنون بالتمثيل الثقافي لجماعاتهم العرقية، حضور أيًّ منهم على الساحة العالمية، في ذلك النظام البيئي، إنما يتم بصفته السياسية لا بقيمته الإبداعية، شاء الحاضر أم أبى، علا شأنه الفني والفكري أم انخفض. 

وعليه، يُعتبر إرث المؤلف الأميركي الأبيض جورج غيرشوين George Gershwin 1898-1937 الذي يُعد الضمير الموسيقي للولايات المتحدة، استحواذاً ثقافياً على موسيقى العبيد الأفارقة، ومتتالية المؤلف الروسي ريمسكي كورساكوف 1844-1908 Rimsky korsakov المعنونة "شهرزاد"، استحواذاً على التراث الفارسي، أما أغان للملحن المصري محمد عبد الوهاب 1902-1991 كـ "سهرت الليالي" و"بلاش تبوسني في عِينيَّ"؛ فاستحواذٌ على إيقاعات أميركا اللاتينية كالتانغو والباسا دوبليه، وارتجال عازف العود العراقي الآشوري منير بشير 1930-1997 على مقام الكرد، استحواذٌ على الموسيقى الكردية، حتى يوهان سباستيان باخ، لن يسلم من هذا الجنون، وإن بأثر رجعي مديد، جراء كتابته أعمالاً لآلة الكيبورد كـ "الكونشرتو الإيطالي" والمتتالية "الإنكليزية" و"الفرنسية".

حالة حميمية موازية، كالتي تصلني بباخ، وصلتني دوماً بالمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد 1935-2003، تشابهٌ في سيرة النشأة "خارج المكان" ومآلات الاغتراب الداخلي والخارجي، هو الآخر لم تتسنّ لي فرصة التعرف إلى شخصه قبل وفاته المبكرة، وإن عشتُ أنا وكُتبه معاً حيث سَكَنت بعناوينها صدر غرفة الجلوس الصغيرة، مرصوصةً على طول الرف الأوسط من مكتبة والدي الخشبية البيضاء في بيتنا بضاحية مشروع دُمَّر غربيّ دمشق.

يُنسب لسعيد ما بات يُعرف اليوم بحقل دراسات بعد الكولونيالية Post colonial studies. وعليه، يستند اليسار الجديد في ضرورة هدم بنى القوة الثقافية للمؤسسات الاستعمارية، حيث يتم ذلك، برأيهم، عبر إنشاء محاكم تفتيش عن الاستحواذ الثقافي. لعله يغيب عن أذهانهم أن سعيد، إلى جانب كونه مثقفاً عضويّاً قاوم الاحتلال ومقدماته الاستعمارية، يُعدّ من أبرز نقاد الأدب العالمي في القرن العشرين، علاوة على أنه كان عازفاً فذاً على آلة البيانو، يُتقن موسيقى كلاسيكية ليست عربية أو فلسطينية، وأنه في مقدمة كتابه "تأملات في المنفى" سنة 2000، وفي محاولة منه استدراك سوء الفهم وتسطّح التأويل الذي لحق بمؤلفه المفتاحي "الاستشراق"، كتب: "الثقافات هي دوماً نتاج خليط غير متجانس، وحتى متناقض، من الحوارات".

المساهمون