الاستماع إلى الموسيقى: العقل والقلب معاً

15 مايو 2022
لا سماع من دون سياقات داخلية وخارجية تتحكم به (Getty)
+ الخط -

من قناته على يوتيوب، رفع وزير السياحة السوري الأسبق، والباحث الموسيقي سعد الله آغا القلعة، برنامجاً تلفزيونياً من أرشيف الإعلام الرسمي، بعنوان "حوار مفتوح"، يعود إلى منتصف ثمانينيات القرن الماضي. خلاله، يُقدّم المُذيع عادل يازجي مناظرةً دارت رحاها بين كل من القلعة، ورائد الحركة الموسيقية الكلاسيكية الغربية في دمشق، الموسيقي العراقي صلحي الوادي (1934 - 2006).

الحوار الذي استمر هادئاً لبِقاً ورزيناً، وبعربية فصحى منمّقة، تناول عدة محاور؛ ظاهرُها مُتعلّقٌ بالموسيقى ضمن إطارها العام، وانطلاقاً من رسالتها الإنسانية. يستعرض نشأتها وتطورها، ويناقش مدى الحاجة إليها، كما يتطرّق إلى الدور الذي تؤديه في رُقي الثقافة والمجتمع.

في العمق، بدت العقائد الفكرية المُتباينة للضيفين المتناظرين، كما لو أنها تحتك حيناً، وتصطدم أحياناً على مسار الندوة، متّخذةً طابع سجالٍ في الهوية الثقافية، لا يزال مُستمراً إلى اليوم بين أوساط المشتغلين بالموسيقى والمتذوقين لها في كل من الشام ومصر، وسائر البلدان الناطقة بالعربية.

القلعة، من جهة، سادنٌ عروبيٌّ أمين على التراث الموسيقي للمنطقة منذ الخلافة الأموية، مروراً بالعباسية، وتوازياً مع الحقبة الأندلسية، وصولاً إلى ما بعد الكولونيالية المصرية منتصفَ القرن العشرين. من جهة مقابلة، يرى الوادي في الموسيقى الكلاسيكية الغربية، التي تعقّدت وتبلورت في كنف التنوير الأوروبي والثورة الصناعية على مدى القرون الأربعة الماضية، سيرورة تطوّر حضاري، ما فتئت تمضي قدماً وتُمثّل الإرث والمستقبل للبشرية جمعاء.

واحدٌ من محاور الندوة كان المسألة المرتبطة بما إن كان الاستماع إلى الموسيقى، فضلاً عن إبداعها، سواءً تلحيناً أو أداءً، هو عملية فكرية أم تجربة حسية؟ هل للعقل دورٌ في خلق الموسيقى وتذوقها؟ أم أن العاطفة فقط ما يُفضي إلى إبداع النغم، وأن للعاطفة وحدها أن تستقبله وتستجيب له؟

صلحي الوادي، غربيّ الهوى، رأيهُ أن للتجربة الموسيقية جانبين عقلي وعاطفي. بينما سعد الله آغا القلعة، وعلى الرغم من الخلفية العلمية التي يتمتع بها في مجاليّ الهندسة والمعلوماتية، يرى أن الموسيقى استماعاً وممارسةً تبقى تجربةً حسيّة، لا يدخل عليها العقل سوى من نافذة البحث العلمي والدراسة النظرية، وذلك بغية فهمها وسبر آلياتها.

أما بالابتعاد، ولو قليلاً، عن المناظير الثقافية، فالعلوم الحديثة النفسية والإدراكية ترصد لدى دراستها الموسيقى عدة سمات، تُميّزها بوصفها وسيطاً تعبيرياً سيّالاً، أيّ ذا امتداد زمني، الصوت هو أولها.

في البدء، كان الصوت. كما ورد عند ماري سيرافين في كتابها "الموسيقى كإدراك معرفي" (1988)؛ ما الصوت إلا "تجلٍّ سمعي لطاقة اهتزازية". تلك الماهية، أو المادة الأولية، هي التي يُصنع منها النغم. أما لون الصوت، أيّ طبيعته لجهة كل من النبرة، الشدة والارتفاع؛ فهي التي تُحدد الكيفية التي يستقبله بها الدماغ البشري، ويُستشعر أثره العاطفي.

ثمة أيضاً الأنماط. إضافة إلى استطاعة البشر التمييز بين الأصوات فرادى كلٌّ بحسب لونه، إلا أن لديهم أيضاً القدرة على رصد الأنماط التي تجتمع من خلالها ضمن أجواء البيئة السمعية. كيف تتباعد أو تتجاور، وكيف تتآلف أو تتخالف، وكيف يُغيّر هذا من طبيعة السماع. أكثر الأنماط حضوراً هو الإيقاع، هو الذي تتوزّع من خلاله الأصوات على مدار الزمن.

عن طريق دراسة أجريت نهاية التسعينيات، تبيّن أن أطفالاً لا تتجاوز أعمارهم الخمسة أعوام، لدى استماعهم إلى مقطوعات موسيقية، تمكنوا من وصف أثر كل منها بدقة كالبهجة أو الحزن، الحيوية أو الهدوء، وذلك فقط من خلال تمييزهم لأنماطها الإيقاعية.

سمة أخرى هي السياق؛ إذ لا سماع من دون سياقات داخلية وخارجية تتحكم به. الحالة النفسية، المزاج العام واللحظة الزمنية التي تمرّ أثناء العزف أو الاستماع، ويمرّ بها العازف أو المُستمع، ستؤثر في مجريات التجربة الموسيقية. ذلك ما توصّل إليه عالم النفس الصربي كونشني، في كتابه "التفاعل الاجتماعي والذائقة الموسيقية" (1988)؛ إذ وجد أن المستمعين "إنما هم في تبادلٍ مستمر مع البيئة الاجتماعية وغير الاجتماعية التي تنتمي إليها المُحفّزات الصوتية التي يتعرضون لها".

بديهيٌّ أيضاً الدور الذي تلعبه الخلفية الثقافية والمعرفية، لدى كل من المؤدي والمتلقي. فمن من ألمّ بسياق الثورة البلشفية والحقبة الستالينية في روسيا سيستمع بصورة مختلفة إلى موسيقى المؤلف الروسي ديمتري شوستاكوفيتش (1906 - 1975). ومن حضر الحلقات الصوفية في تكايا حلب أيام الطفولة، سيتفاعل مع ضرب الدف على نحو أخصّ لدى سماعه موشح "اسق العطاش" للشيخ عمر البطش (1885 - 1950).

بعد هذا، تُضاف سمة السردية. الألحان بصعودها وهبوطها، بهدوئها وحركتها، بتشنّجها وارتخائها، بسكوتها، حتى لو لم تحمل على متنها نصاً منطوقاً أو مُغنى، فإنها قد توحي بقصة ما وبمشهدية، وإن غلب عليها التجريد، اكتنفها المجاز وتعددت التأويلات إزاء تتابع الأحداث فيها.

بعد أن حضر المؤلف النمساوي أرنولد شونبرغ (1874 - 1957) عرضاً للسمفونية الثالثة من تأليف صديقه غوستاف ماهلر (1860 - 1911)، بعث إليه برسالة يروي فيها ما سمع قائلاً: "أعتقد بأنني قد عِشتُ سيمفونيتك. شعرت بتصارع الأوهام. أحسست بوجع المُضلّلين. شاهدت قوى الخير والشر في احتدام. رأيت من اختلجت مشاعره، يُجاهد من أجل الظفر بالانسجام الداخلي. لقد تلمّستُ إنساناً، دراما، حقيقة، لعلها الأشد قسوةً من بين الحقائق".

بالعودة إلى الندوة التلفزيونية والمنظورين المتقابلين لكلّ من صلحي الوادي وسعد الله آغا القلعة. بدا أن الأخير يحاجج انطلاقاً من ثقافة شرقية لا ترى بُعداً عقلانياً للتجربة الموسيقية، وإنما طرب صرف، فيما يُشير الوادي انطلاقاً من ثقافة غربية إلى العقل، كأحد أركان السماع الجاد. في الواقع، يستمد كل من المُنظّريَن المتناظرين رأيه من وحي الحداثة الغربية ذاتها، التي لم تُحسن النظر في الظواهر، إلا من إطار الثنائية الديكارتية؛ مادة وفراغ، جسد وروح، عقل وعاطفة.

موسيقى
التحديثات الحية

أما اليوم، زمن التقانة الرفيعة، التاريخ المُفرط وما بعد الصناعة، فتبدو الكشوفات الثورية في العلوم العصبية والإدراكية، كما لو أنها تُمهّد لنظرة جديدة تتجاوز جدلية الثنائيات. أحد أقطابها البارزين، العالم والفيلسوف البرتغالي أنطونيو داماسيو، صاحب كتاب "خطأ ديكارت" (1994)؛ إذ يصف المعرفة عند الإنسان بـ "الوضع الهجين" ثم يستطرد: "إننا مخلوقات شاعرة تُفكّر، ومخلوقات مُفكّرة تشعر".

إذاً، لم تعد المشاعر حكراً على القلب وحده، كما أن الأفكار ليست بعد الآن حكراً على العقل وحده. بل إن كلّاً من المشاعر والأفكار مُخرجاتُ ائتلاف الدماغ والجملة العصبية ضمن حدود الكائن الحي، أو ما يُطلق عليه داماسيو "العضوية ذات السيادة". وعليه، بالرؤية عبر المنظور المعاصر، إن الموسيقى، شرقيةً كانت أم غربية، بسماتها من صوت ونمط وسياق وسرد، لا بد وأن تستجيب لها السيادة العضوية برُمّتها، بسيرتها، بخبرتها، بظروف بيئتها، وبوحدتها الآنية.

المساهمون