تزامناً مع بدء الحرب على أوكرانيا قبل 6 أشهر، بدأت السلطات الروسية بتنفيذ خطة إعلامية موازية للعملية العسكرية. وسارت هذه الخطة على مستويين: الأول قادته آلة البروباغندا الخاصة بالكرملين بهدف تشكيل رأي عام داعم للحرب، وزيادة جرعة المواد الوطنية، وتوجيه رسائل إلى الداخل والخارج، مركزة على انتقاد رافضي العملية العسكرية. ونتيجة لذلك تحول عدد من الإعلاميين إلى جنرالات يوجهون المراسلين على الأرض، أو إلى محللين عسكريين لا يتوقفون عن كيل المديح للجنود الروس و"إنسانيتهم". أما المستوى الثاني فتولّته السلطات التشريعية من خلال سنّ قوانين هدفها "محاصرة الطابور الخامس"، ومنع "الأعداء" و"العملاء الأجانب" من التسلل إلى أفكار المواطنين وتشويه صورة الجيش الروسي.
حجب شامل وقوانين مشددة
منذ بدء الحرب على أوكرانيا، حظرت هيئة الرقابة على وسائل الإعلام (روسكومنادزور) أكثر من 82 ألف موقع وصفحة على الإنترنت. كما فرضت السلطات تعديلات على قانون الجرائم الإدارية والقانون الجنائي، التي اعتُمدت في الأيام الأولى من شهر مارس/ آذار، ونصت على فرض غرامات باهظة، فضلاً عن عقوبة السجن لكل مساهم بنشر معلومات "مزيفة" أو من شأنها "تشويه سمعة القوات المسلحة الروسية". بعد ذلك، أعلنت بعض وسائل الإعلام الروسية تعليق عملها بسبب الظروف الأقرب إلى الرقابة العسكرية، فيما تم حظر أخرى بناء على طلب الجهات الرقابية.
وفي ظل التشديدات الحالية والسابقة، تراجعت روسيا من المرتبة 150 إلى المرتبة 155، لتجد مكانها بين بيلاروسيا وأفغانستان في مؤشر حرية الصحافة الذي أعدته منظمة مراسلون بلا حدود عام 2022. وأوضحت المنظمة الدولية أن "الحكومة الروسية فرضت سيطرتها الكاملة على الأخبار والمعلومات من خلال فرض رقابة عسكرية واسعة النطاق، وحجب وسائل الإعلام واضطهاد الصحافيين المشاغبين، وإجبار العديد منهم على مغادرة البلاد".
وفي اليوم الأول لبداية الحرب في 24 فبراير/ شباط الماضي، أصدرت هيئة "روسكومنادزور" تحذيراً لوسائل الإعلام بضرورة استخدام المعلومات الواردة من المصادر الروسية الرسمية حصراً، لأنها وحدها "تنشر معلومات موثوقة وحديثة". وفي حال عدم الامتثال، هددت الهيئة بالحظر الفوري للمؤسسات الإعلامية بموجب المادة 15.3 من قانون المعلومات وغرامة تصل إلى 5 ملايين روبل (83 ألف دولار) بموجب المادة 13.15 من قانون الجرائم الإدارية المتعلقة بـ"إساءة استخدام حرية وسائل الإعلام".
وحظرت الهيئة الوصول إلى أكثر من 50 وسيلة إعلام أجنبية وروسية، من ضمنها وسائل الإعلام المصنفة ضمن قائمة "العملاء الأجانب"، والمواقع الأوكرانية، والصحافة الأجنبية. وبات الوصول إلى المواقع المحظورة غير ممكن من دون استخدام VPN.
وعزت "روسكومنادزور" حظر هذا العدد الكبير من وسائل الإعلام إلى"إساءة استخدام حرية التعبير" من قبل الصحافيين. ولم تكن الهيئة غاضبة فقط من المقالات التي لم تستند إلى إحاطات وزارة الدفاع الروسية، ولكن أيضاً بسبب "المواد التي يُطلق فيها على العملية الجارية اسم هجوم أو غزو أو إعلان حرب". ونتيجة لذلك، بدأت وسائل الإعلام التي استمرت في العمل في روسيا بإرفاق منشوراتها بإخلاء مسؤولية، يفيد بأن المعلومات المنشورة لم تؤكدها السلطات الروسية وقد لا تكون صحيحة.
ولم تستطع بعض وسائل الإعلام أن تتصالح مع شروط الوجود الجديدة فأعلنت وقف عملها. على سبيل المثال وبعد سلسلة من التحذيرات من "روسكومنادزور"، أوقف موقع Znak.com وقناة Tomsk TV-2 عملهما مؤقتاً. وعلق رئيس تحرير القناة فيكتور موشنيك على هذا القرار، قائلاً: "لقد أصبح من المستحيل العمل بالشكل الذي نراه مناسبًا، ولن نعمل بالشكل الذي تراه السلطات الروسية مناسباً".
واتبعت صحيفة نوفايا غازيتا نفس المسار، ففي 28 مارس/ آذار، أوقفت نشر التقارير على موقعها "حتى نهاية الأعمال العسكرية". كما حظرت السلطات موقع "نوفايا غازيتا" بنسخته الأوروبية، وهو مشروع أنشأه عدد من الصحافيين الذين غادروا روسيا. وبدأت السلطات بحظر روابط مواد معينة في البداية، لكنّها سرعان ما انتقلت إلى حجب أسماء نطاقات المواقع بالكامل.
غرامات وشروط كبيرة
في الإطار نفسه، وبعد أيام من بدء الحرب، اعتمدت السلطات الروسية قانون "التزييف وتشويه سمعة القوات المسلحة الروسية"، الذي ينص على المسؤولية الجنائية لنشر "معلومات غير دقيقة"، بمبادرة من رئيس مجلس الدوما (البرلمان) فياتشيسلاف فولودين، وزعيم الحزب الشيوعي غينادي زيوغانوفو، والنائب والصحافي بيوتر تولستوي، ورئيسة مجلس الشيوخ الروسي فالنتينا ماتفينكو.
وتعود جذور مشروع القانون هذا إلى عام 2018 حين قُدّم إلى مجلس الدوما، لكن لحقته تعديلات كثيرة في نسخته الأخيرة، بينها بند خاص عن عقوبة نشر معلومات كاذبة عن عمد عن القوات المسلحة الروسية مع غرامة تصل إلى 1.5 مليون روبل والسجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات، علماً أن النسخة الأصلية من القانون لا تحتوي على مثل هذه الأحكام.
بالإضافة إلى ذلك، وافق المشرعون على تعديلات لقانون المخالفات الإدارية تنص على غرامة تصل إلى 300 ألف روبل أو السجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات لكل متورط بتشويه سمعة الجيش الروسي علانية على وسائل التواصل الاجتماعي. كما نصت التعديلات أيضاً على السجن ثلاث سنوات مع غرامة تصل إلى 500 ألف روبل على وسائل الإعلام المتورطة بالتهم نفسها، وهو ما دفع عدداً كبيراً من المؤسسات إلى وقف عملها.
وسائل الإعلام و"الحق في ارتكاب الخطأ"
في 30 يونيو/ حزيران، تبنى مجلس الدوما في القراءة الثالثة النهائية مشروع قانون من شأنه أن يسمح لمكتب المدعي العام بحظر وسائل الإعلام من دون محاكمة بسبب انتهاك القانون. وقدمت الوثيقة في إبريل/نيسان الماضي للنظر فيها من قبل مجموعة من النواب من لجنة الأمن ومكافحة الفساد. وفي مرحلة القراءة الأولى، قال رئيس مجلس حقوق الإنسان الروسي برئاسة فاليري فاديف إن "الأدوات الموجودة لتنظيم أنشطة وسائل الإعلام كافية". ومع ذلك، على الرغم من الانتقادات، تم اعتماد مشروع القانون أيضًا في وقت قصير (أقل من ثلاثة أشهر).
ووفقًا للوثيقة، فإنّه في حال نشرت وسائل الإعلام الروسية معلومات مزيفة عن الجيش الروسي، لن تفقد رخصتها على الفور، كما كان مقرراً في القراءة الأولى قبل التعديلات. ولكن كتحذير، سيتم تعليق الترخيص لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر أو حتى "زوال ظروف المخالفة". إذا لم تلتزم وسيلة الإعلام بالمتطلبات خلال الوقت المحدد، فسيتم منحها فرصة أخرى. في المرة الثانية سيعلَّق الترخيص لمدة ستة أشهر. ولن تكون هناك فرصة ثالثة.
وفي ما يخص وسائل الإعلام الأجنبية، سيتم تطبيق قواعد مختلفة، وهي الإلغاء الفوري للترخيص وإلغاء اعتماد العمل في روسيا.
سولافيوف وطبول الحرب
في اليوم التالي لوقف السلطات الناظمة للاتصالات بثّ قناة يورونيوز باللغة الروسية في 19 مارس/ آذار بتهمة نشر أخبار كاذبة، بدأت محطة روسيا 24 البث على نفس التردد، ولاحقاً وفي إشارة إلى زيادة حظوته عند الكرملين، أطلق الإعلامي المقرب من دوائر صنع القرار فلاديمير سولافيوف محطته التلفزيونية الجديدة "سولافيوف لايف" على نفس التردد، ليصبح واحداً من أبرز وجوه المرحلة الإعلامية.
ويقدم سولافيوف برنامج "المساء مع سولافيوف" ست مرات أسبوعياً، إضافة إلى برنامج "الأحد مع سولافيوف" وبرنامج "موسكو بوتين الكرملين" يوم الأحد. وقد قام بعد زيارة إلى ماريوبول الأوكرانية بعرض أسلحة قال إنّ المقاتلين الروس والانفصاليين في دونيتسك اغتنموها من "المجموعات النازية" في أوكرانيا وأنها كانت ضمن شحنات الأسلحة الغربية لدعم أوكرانيا. كما يواصل في مختلف برامجه الهجوم على الرئيس فلودومير زيلينسكي والبلدان الغربية، مطالباً القيادات الروسية بتبني مواقف أكثر صلابة لوقف التهديدات الغربية باستخدام الترسانة العسكرية الروسية.
برامج "توك شو" عسكرية
مع مغادرة كثير من معدي ومقدمي برامج " توك شو" الترفيهية بعد بداية الحرب، زادت المحطات الروسية من مدة البرامج الحوارية السياسية بالاعتماد على عدد محدود من المحللين أصحاب الصوت العالي ممن أطلق بعضهم تهديدات بضرورة توجيه ضربات نووية لعدة بلدان، وضم بلدان أخرى إلى روسيا وسط تشجيع ودعم مقدمي البرامج ممن يرتدي بعضهم سترات طبع عليها حرف "Z" رمز العملية العسكرية الروسية.
وفي حين يقدم المراسلون الروس في أوكرانيا تقارير وهم على أسطح الدبابات والمدرعات الروسية، ويعرضون "انتصارات" الجيش الروسي و"إنسانيته"، يواصل مراسلو القنوات في أوروبا والولايات المتحدة الترويج للغضب الشعبي المتزايد بسبب التضخم وارتفاع الأسعار، والتخوف من تأمين وسائل التدفئة في الشتاء.
بعد ستة اشهر من الحرب، يبدو أنّ شعار الإعلام الروسي لا يزال "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" مع عدم السماح لأي صوت بتعكير صفو "انتصارات" الكرملين السياسية والعسكرية والاقتصادية على "العالم الليبرالي المنحل الآبل للسقوط" حسب تقديرات معظم مقدمي البرامج السياسية الروسية وضيوفهم.