كأنّ كل شيء بات مباحاً، كأنّ الدفاع عن المدنيين الأوكرانيين في وجه الهجوم الروسي أزاح العفن عن الخطاب الغربي، كأن الحرب منحت جانباً كبيراً من الإعلام الأوروبي والأميركي فرصته لتصفية حساباته بلا حياء مع كل الشعوب الأخرى، تلك الأقل بياضاً والأقلّ ثراءً والأقلّ حظاً.
ثلاثة أيام كانت كافية، ليُفتح الهواء لكل أنواع الكراهية تجاه العرب والأفغان والأفارقة، بلا أي ضوابط، وبلا أي مراجعة، ولا أي مقاطعة. كراهية بحتة وجدت في حالة التضامن الواسعة مع الأوكرانيين فرصة لإرساء ثنائيات ومقارنات من خارج سياق الأحداث الحالية. لماذا قد يخرج مراسل مخضرم مثل تشارلي داغاتا على شبكة CBS ليقول بكل أريحية إن "أوكرانيا ليست مكاناً، مثل العراق أو أفغانستان... كما تعلمون هذه مدينة حضارية نسبياً وأوروبية نسبياً"؟ يعتذر داغاتا وسط الكلام ويكمل مقارنته، يعلم أن ما يقوله ينضح عنصرية، ومع ذلك لا يتوقف.
لماذا يستمع مذيع "بي بي سي" روس أتكينز إلى ضيفه السياسي الجورجي ديفيد ساكفاريليدزي وهو يتحدّث عن مشاعره الحزينة لرؤية "أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر يتعرضون للقتل" من دون مقاطعته؟ لماذا يهز المذيع الفرنسي ليونيل غوجولوه في إذاعة "أوروبا 1" رأسه موافقاً على كلام رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية الفرنسية جان ـ لوي بورلانج وهو سعيد باللجوء الأوكراني "ستكون بلا شك هجرة عالية الجودة وفيها مثقفون"؟ لماذا تصرّ قناة BFM الفرنسية اليمينية على تكرار الخطاب نفسه عبر شاشتها منذ يوم الخميس عن اللاجئين الأوكرانيين "فنحن لا نتحدث عن سوريين يهربون من قصف نظامهم المدعوم من بوتين، بل نتحدث عن أوروبيين يقودون سيارات كسياراتنا"؟
يبدو تعامل الإعلام مع هروب المدنيين الأوكرانيين من مدنهم ولجوئهم إلى دول مجاورة مستحيلاً، من دون مقارنته بلاجئين آخرين، كأن هول المأساة الإنسانية في أوكرانيا لا يكتمل إلا بهذه المقارنة. وهذا العجز عن خلق خطاب إنساني، خطاب تضامني، من دون تحقير مآسي شعوب أخرى، لا يقترب من أي نهاية، أمام غياب الأصوات النقديّة لكل ما بثته الشاشات في الأيام الأخيرة.
على أي حال، لا تثير بشاعة هذا الخطاب الدهشة. بل المدهش الوحيد هو إخلاص الرواية الإعلامية للخطاب الاستعماري الأبيض الذي أسس الإعلام الغربي، قبل عقود، وتحكّم بالسردية الرسمية وصياغة الرأي العام لسنوات طويلة: من يستحق التعاطف ومن لا يستحق، من يُسمح له بمقاومة المحتل ومن لا يُسمح له، من يمكن وصفه بالضحية ومن لا يمكن.
قد لا يكون مفيداً في هذه اللحظة الحالية إجراء مقارنة للخطاب الإعلامي بين تغطية الاعتداء الروسي على أوكرانيا، وتغطية العدوان الإسرائيلي على غزة على سبيل المثال خلال الصيف الماضي، أو العدوان الروسي المستمر على الشعب السوري، لكن من المفيد طبعاً وضع التغطية الحالية وكل المقارنات في سياقها الطبيعي، كجزء من السردية الإعلامية السائدة في الغرب، وإن خفت وهج بياضها في لحظات معينة من التاريخ الحديث.
لا يصعب فعلياً رصد هذه السردية في كل تفصيلة، سواء في الصحف والمواقع أو على شاشات التلفزيون، سواء من خلال اختيار الضيوف، أو اختيار التعليقات المرافقة للمقالات والمقاطع المصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، فها هي صحيفة "ذا تيليغراف" البريطانية على سبيل المثال تنشر مقال رأي للصحافي دانيال هانان ترد فيه العبارة التالية "إنهم يشبهوننا للغاية (الروس). وهذا ما يجعل الأمر صادمًا للغاية. لم تعد الحرب شيئًا يتعرض إليه السكان الفقراء والبعيدون. يمكن أن يحدث لأي شخص".
والحق يقال فإن صدمة الصحافي الأبيض، بالحرب التي يشنها حاكم روسي أبيض ضد شعب أوروبي أبيض، تجد حاضنتها الكاملة في الخطاب السياسي اليميني الذي وجد في هذا الهجوم على أوكرانيا ومأساة هروب المدنيين، فرصته لإطلاق العنان لكل ما كان يحاول صياغته بكلمات متزنة في السنوات السابقة. فلا حياء في الحروب ولا محاسبة على كل القيء الشعبوي: النائب عن حزب الشعب المحافظ في الدنمارك ماركوس كنوث مثلاً لا يجد مانعاً في تكرار موقفه من اللجوء "يجب أن تكون أيدينا مفتوحة للأوكرانيين، بقدر ما يجب أن نكون متشددين وقاسين ورافضين للاجئين من أفريقيا". رئيس الوزراء البلغاري كيريل بيتكوف كرر العبارات نفسها وإن بصيغة مختلفة.
يبقى أن هذه الدائرة التاريخية والسياسية والإعلامية، مقفلة ومحددة المعايير، قد ترخي تشددها قليلاً، أمام موت مواطن أسود أو غرق طفل سوري أو اغتصاب سيدة أفغانية، لكنها في لحظة واحدة ستعود لتقفل على المزيد من التمييز، والمزيد من الفوقية، والمزيد من النبش في تاريخ استعماري تسعى الحكومات الغربية إلى طمسه بلا جدوى.