- تميزت مسيرتهما بتلحين الأناشيد الوطنية مثل "موطني"، وتعاونهما مع شعراء مرموقين، مما أثرى أعمالهما بعمق شعري وموسيقي يعبر عن الهوية العربية والحرية.
- واجه الأخوان فليفل تحديات كبيرة بما في ذلك التهديد بالسجن، لكنهما واصلا مسيرتهما بدعم من الجمهور والحكومات العربية، مسهمين في تطوير الموسيقى العسكرية وترك إرث فني غني.
لم ترتبط الموسيقى العسكرية في بلاد العرب بأحد كما ارتبطت بالشقيقين اللبنانيين محمد وأحمد فليفل. في العقدين الأولين من القرن العشرين. التفت الأخوان فليفل إلى الفرق العسكرية التركية التي كانت تجوب شوارع بيروت. وبينما كانت الجماهير تكتفي بمتابعة تلك الفرق من النوافذ والشرفات والمحال التجارية، كان الصبيان الصغيران يتبعان المواكب الموسيقية وهي تجوب الشوارع والميادين.
كان لإيقاع الطبول ورنين الآلات النحاسية وقعه المؤثر في نفسيهما. جذبهما العزف العسكري حتى امتلك منهما كل تفكير واهتمام. نشأ الصبيان في بيئة مواتية: أب يحب الموسيقى، وأم تهوى الإنشاد الديني والتواشيح وراثةً عن أبيها شيخ مؤذني الجامع العمري في بيروت. ولا بد للهواية من دراسة. هكذا، التحق محمد بموسيقى دار المعلمين التركية، وانتسب أحمد إلى فرقة موسيقى دير المخلص.
وبعد هذه المرحلة التأسيسية، صقل الأخوان فليفل درايتهما الموسيقية بالتلمذة لموسيقيين من ذوي العلم والمكانة، ومنهم الأب مارون غصن، والإيطالي فريدريك ريتلي، ووديع صبرا، الذي عمل لفترة مديراً لفرقة موسيقى الجيش اللبناني. لم يأت عام 1923 إلا وقد أسس الأخوان فرقة "الأفراح الوطنية"، مكونة من 26 عازفاً، بعد أن اشتريا لها آلات النفخ والإيقاع من مالهما الخاص.
تتفق المصادر التي تتناول سيرة الأخوين على أن محمد هو الشقيق الأكبر، وأنه يسبق أحمد ميلاداً بأربع سنوات، لكنها تختلف على تحديد سنة ميلاده ما بين عامي 1899 و1902. وإذن، فقد ولد الأخوان فليفل في حي الأشرفية في بيروت خلال السنوات الأولى من القرن الماضي، ودشنا فرقتهما الأولى مبكراً وهما في أول عشرينيات عمرهما. ولم يمض عامان أو ثلاثة، حتى حققت الفرقة نجاحاً كبيراً وشهرة واسعة، ودعيت للعزف في المناسبات الوطنية، بعد أن كانت عروضها مقتصرة على المدارس أو الجمعيات الأهلية.
انطلاقة الأخوين فليفل وافقت ظرفاً تاريخياً مرحباً، فالموسيقى العسكرية المتسمة بالحماسة، والأناشيد الوطنية ذات الطابع التحريضي، تمثل حاجة ملحة لأي أمة تعاني ويلات الاحتلال، أو تتشوق إلى الحرية والخلاص من الاستعمار. وفي هذا التوقيت، كانت معظم البلدان العربية واقعة تحت الاحتلال، وخرج لبنان من الحكم العثماني إلى الانتداب الفرنسي، وتصاعدت مشاعر الغضب بين الشباب العرب، وكل ذلك مثل بيئة مناسبة لانتشار هذا النوع من الموسيقى، كما مثل بوصلة أمام الأخوين، تشير إلى واجب فني يتحتم أداؤه، فكانت بواكير أعمالهما التلحينية لعدة قصائد نظمها صديقهما الشاعر عبد الرحيم قليلات (1884- 1942) مدير الشرطة والأمن العام ببيروت وقتئذ، وصاحب الرحلة النضالية الطويلة في مقاومة الاستعمار بالشعر والأدب والصحافة.
في بيت قليلات، تعرف الأخوان فليفل إلى الشاعر إبراهيم طوقان، الطالب -حينها- بالجامعة الأميركية. لاحقا، وتحديداً عام 1934، أثمر التعاون بين الأخوين والشاعر واحداً من أشهر الأناشيد الفلسطينية، بل والعربية، هو نشيد "موطني"، الذي انتشر بسرعة استثنائية، واعتبر نشيداً غير رسمي لفلسطين إلى أن اعتمدت منظمة التحرير نشيد "فدائي" عقب انطلاق الثورة الفلسطينية. في عام 2003، اعتمد "موطني" نشيداً وطنياً للعراق.
كانت مسيرة الأخوين فليفل مع تلحين الأناشيد الوطنية الحماسية أشبه بالقدر الحتمي. كانت رحلة طويلة جداً، وثرية إلى أبعد الحدود، ويصعب الإحاطة بها في مقال أو موضوع صحافي، لكن من المعالم اللافتة في هذه المسيرة نشيد "الفخر في بلادنا" للشاعر عبد الحليم الحجار، عام 1947. نال هذا العمل قبول كل التيارات السياسية اللبنانية، وصار سبباً لوحدة تظاهراتهم ضد الاحتلال، ثم صار نشيداً أساسياً للقوى العسكرية ولطلبة المدارس والفرق الكشفية.
وكان نشيد "العلا للعرب" الذي صاغ كلماته الشاعر المصري عبد الحميد زيدان، المنتدب لتدريس اللغة العربية في كلية المقاصد ببيروت، من أهم محطات الأخوين فليفل. كانت الأبيات بالغة الحماسة: "العُلا للعربِ.. الأُباةِ النُجُبِ.. فلتكن خطوتنا.. فوق هامِ الشُهُبِ.. من يثربٍ أو جِلّقِ.. طاف الهدى في فَيْلَقِ.. بالغرب بعد المشرق.. فلنُحي عهدَ العرب".
لكن لحن الأخوين جعل النشيد كالبارود المتفجر، حفظه طلاب الكلية، وكانوا يهدرون بكلماته كل صباح، ووصل صوتهم إلى المندوب السامي الفرنسي، بسبب قرب مقرّه من الكلية، فطلب ترجمة الكلمات، واستشاط غضباً بعدما عرف معاني النشيد، وسمع بنفسه أثره الكبير على الطلاب. على الفور، أصدر أوامره إلى دائرة الأمن العام بطرد الشاعر المصري وترحيله إلى بلده، كما أرسل تهديداً صريحاً إلى الأخوين فليفل بالسجن أو النفي إذا لم ينتهيا عن تلحين هذا النوع من الأناشيد.
رفض الأخوان فليفل ذلك، فطلب المندوب السامي من وزارة المعارف الاستغناء عن خدماتهما. وبالفعل، فُصل الرجلان من العمل، لكن لم يلبثا طويلاً حتى سقطت الوزارة، وجاءت وزارة جديدة تضم جبران تويني وزيراً للمعارف، فأعادهما إلى ما كانا عليه.
وفي الأمثلة المهمة، نشيد "تشرين" من كلمات الشاعر نسيم نصر، الذي لحنه الأخوان عام 1944، بطلب من رئيس الوزراء رياض الصلح، أو النشيد الرسمي لجامعة الدول العربية وهو قصيدة للشاعر المصري محمد المجذوب، وكذلك أناشيد معظم الأحزاب اللبنانية، أو نشيد جمعية العروة الوثقى بالجامعة الأميركية في بيروت، من كلمات سعيد عقل. وكان له دوي كبير، واعتمدته وزارة المعارف العراقية -حينها- نشيداً رسمياً للمدارس والجامعات، أو نشيد "سوريا يا ذات المجد" من كلمات مختار التنير، الذي اعتمد في مدارس الأردن وجامعاته، حتى أوائل الستينيات، في حقبة الحماسة الجماهيرية الأردنية لما يعرف بـ"سوريا الكبرى"، أو نشيد "عليك مني السلام" الذي ردده العرب تأييداً للثورة الجزائرية، وهو من نظم عبد الحميد بن باديس.
كان اهتمام الأخوين فليفل بالشعر والشعراء كبيراً. وكان جهدهما واضحاً في انتقاء الكلمات المعبرة النابضة بالحماسة والحيوية والصور الجديدة. لذلك كان تعاونهما مع دائرة واسعة من أبرز الشعراء، وفي مقدمتهم: إبراهيم طوقان، وسعيد عقل، ومعروف الرصافي، وعمر أبو ريشة، وفخري البارودي، وأمين تقي الدين، وعبد الحليم الحجار، وبشارة الخوري، وسابا زريق، وشبلي الملاط، وحبيب ثابت، وخليل مردم.
يعتبر الأخوان فليفل الأبوين الحقيقيين للموسيقى العسكرية في لبنان، فقبلهما لم يكن يعزف تلك الموسيقى إلا الفرق العثمانية. أنشأ الأخوان فرقتهما "الأفراح الوطنية"، وكان نجاحها المستمر وقدرة عازفيها على إنقاذ بعض المراسم من مواقف محرجة وطارئة سبباً رئيساً لتكليفهما بتدشين فرقة "موسيقى الدرك" في عام 1942، وإدارتها وتدريب عازفيها، وهي أول فرقة موسيقية خاصة بالدرك اللبناني، وسريعاً ما لفتت الانتباه بحجمها الذي بلغ 65 ضابطاً وفرداً دركياً، وأيضاً بدقة عزفها، وجهوزيتها لكل المواقف، ومنها أداء السلام الوطني السوفييتي الذي كان قد تغير منذ أيام قليلة، وكان مطلوباً عزفه أمام سفير سوفييتي جديد جاء ليقدم أوراق اعتماده، فلم يستطع أن يكتم إعجابه حد الانبهار بقدرة الفرقة البالغة في عزف لحن لم تكن الفرق السوفييتية نفسها قد أنهت التدرب على عزفه. أصر السفير على تسجيل إعجابه بـ"موسيقى الدرك" في دفتر التشريفات.
في كتابه "الأخوين فليفل.. اللحن الثائر"، يوضح الباحث محمد كريم حجم القيمة التي أضافها الرجلان إلى الغناء الوطني فيقول: "قبل أن يطلق الأخوان فليفل أناشيدهما الوطنية والقومية في دنيا العرب، مطلع القرن الماضي، كانت الناشئة في المدارس والمعاهد تؤدي الأناشيد ذات التوجهات العثمانية التي ترفع الدعاء للدولة السنية بالعز والسؤدد".
ويضيف: "وعرفت المجتمعات العربية بعض الأغاني الوصفية التي تتغنى بالوطن بشكل خجول، وتمحورت مواضيعها حول جمال الطبيعة، إلى أن أطلق الأخوان أناشيدهما ذات المضامين الوطنية والأبعاد القومية والتي أوجدت "حالة من الاستنهاض" في العديد من البلدان العربية".
وقد تواكب جهد الأخوين فليفل في الأناشيد مع جهد ضخم في التأليف الآلي، يوضحه العميد المتقاعد جورج حرو، قائد موسيقى أوركسترا الجيش سابقاً، فيقول إن "للأخوين فليفل فضلاً كبيراً في المجالين التربوي والعسكري، وهما اشتهرا بالموسيقى العسكرية وموسيقى التشريفات. لقد كتبا كل المارشات الرسمية، ومعزوفات للطبول والأبواق والثكنات، حلت محل الألحان الفرنسية، وبينها تحية رئيس الجمهورية، تحية العلم، التأهب، تحية رئيس الوزراء، تحية رئيس مجلس النواب، تحية قائد الجيش".
امتدت السمعة الفنية للأخوين إلى كثير من البلاد العربية، فوضع محمد فليفل النشيد الوطني للجمهورية اليمنية، والنشيد الوطني السوري، واستدعته الحكومة العراقيّة لإصلاح الأناشيد التربويّة المدرسيّة في دور المعلّمين، وكذلك فعلت الحكومة السعودية سنة 1952 لتأسيس موسيقى الحرس الملكيّ بطلب من الملك عبد العزيز آل سعود، وأعجب عبد الناصر بنشيد للأخوين فأمر ببثه في "صوت العرب" يومياً. كان الأخوان فليفل طاقة فنية كبرى، وضعت دوماً لمناصرة القضايا العربية الكبرى. في عام 1986 مات محمد فليفل، ثم لحق به شقيقه أحمد عام 1994. رحل الأخوان اللذان لحنا نشيد فخري البارودي: "بلاد العُرب أوطاني".