اعتمار الطربوش... القبّعات الحمراء غادرت رؤوسها

17 فبراير 2022
تعديلات عدة أدخلت على شكل الطربوش ولونه (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -

لا يزال الطربوش (الشاشية)، في تونس والمغرب والجزائر وليبيا، يقاوم الحداثة التي تتجه إلى التخلص منه شيئاً فشيئاً، حيث كبار السن الذي يرون فيه رمزاً للهيبة والانضباط، والقليل من الصناع المهرة الذين يعتمدون على تصديره إلى بعض البلدان الأفريقية. في مصر، كما في سورية والعراق، أصبح الطربوش جزءاً من الماضي، تراه الأجيال الجديدة في الأفلام غير الملونة والصور الفوتوغرافية القديمة، حين كان زيّاً رسمياً في مصر العثمانية والملكية قبل 1953، ويرونه أحياناً في المناطق السياحية إلى جوار الأزياء الفرعونية والفولكلورية.

أما في تركيا، فيمكنك في أحيان قليلة أن تصادف واحداً من كبار السنّ الذين لم يتخلوا بعد عن طربوشهم الأحمر، بالرغم من أن مصطفى كمال أتاتورك، أصدر أمراً بإلغائه عام 1925، بعد تأسيس دولته على أنقاض الدولة العثمانية التي فرضت الطربوش زيّاً رسميّاً.

في مدينة فاس المغربية عام 1946 (فرانس برس)

في رسالة جامعة نشرت سنة 1926 في مجلة "الزهراء"، يؤصل أحمد تيمور باشا للطربوش، فيستخرج من كتب اللغة والأدب والتاريخ ما له علاقة بالمسألة. منذ الأصل الفارسي للكلمة (شربوش)، وما جرى عليها من تعديلات، إلى أن أمست "طربوش"، وما جرى على هيئته ولونه من وقت لآخر ومن مكان لآخر، كما أشار إلى المعاجم الغربية، مثل معجم دوزي ومعجم لاروس ومعجم الملابس التي أكدت أن الطربوش، في نسخته العثمانية الشهيرة، أصله من مدينة فاس المغربية، ثم أخذه الأتراك وعمّموه على البلدان التي تحت سيطرتهم.

مصنع القرش

اشتهر صناع الطرابيش من أهل تونس بجودة صناعتهم وسيطرتهم على الأسواق في البلدان العثمانية. وفي مصر، قرر محمد علي إنشاء مصنع للطرابيش في كفر الشيخ سنة 1828، لتلبية احتياجات الجيش والسوق المحلي. أما مصنع "القرش" للطرابيش الذي افتتح في عام 1933، بالتعاون مع شركة ألمانية، فينظر إليه على أنه جزء من تاريخ مصر الحديث.

في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، كانت مصر تستورد الطرابيش من النمسا، وحين عانى الاقتصاد المصري من انخفاض أسعار القطن عالمياً، اقترح بعض الوطنيين مشروعاً لإنقاذ الاقتصاد المصري، بافتتاح مصنع قومي للطرابيش، وحث كل مواطن مصري على أن يتبرع بقرش واحد فقط لإنقاذ الاقتصاد المصري، وقد استجاب المواطنون وبلغت تبرعاتهم 30 ألف جنيه، وهو رقم كبيرٌ جداً آنذاك.

معركة التحديث والهوية

شنّ أتاتورك بعد توليه الحكم في 1923 حرباً على الطربوش العثماني، واعتبره رمزاً للتخلف، ورأى أن طرح الطربوش وارتداء القبعة هو أول طريق للحاق بالغرب المتقدم، ومن أقواله: "إنني أحارب قوة التعصب بالقبعة، ولا يفل الحديد إلا الحديد". ثارت على إثر ذلك معارك فكرية في مصر وسورية والعراق، ولا ينبغي أن ننظر إليها بعد قرابة قرن على أنها معارك فكاهية، لأن كل فريق كانت له مبرراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية.

معارك فكرية في مصر وسورية والعراق حول الطربوش ودلالاته (Getty)

امتد لهيب المعركة بين الطربوش والقبعة ليهدد العمامة، ولذلك تدخلت المؤسسة الدينية الرسمية وأصدرت فتوى في 25 مارس/آذار عام 1926، تنص على أن: "المذاهب الأربعة المعمول بها مجمعة على تحريم لبس القبعة عند عدم الميل إلى دين أصحابها، وعدم القصد إلى الاستخفاف بدين الإسلام، وإن في تغيير الزي القومي فناء للشخصية وذلك شأن الضعيف".

كانت هناك مخاطر محدقة بالعمامة التي يرتديها علماء الدين وطلبة الأزهر، فكتب الشيخ أبو الوفا التفتازاني سنة 1926: "إذا اختفت العمامة، قُبر الطربوش لأنها لن تجد ما تستند إليه". وهذا ليس كلاماً سطحياً حول الزي، إنما هو رمز مهم وكناية عن السلطة المدنية التي تعتمد الطربوش زياً رسمياً والتي تستند على السلطة الدينية التي تعتمد العمامة زيّاً دينيّاً. وأضاف التفتازاني: "إن العمامة زي قومي وإن العمائم تيجان العرب، أما الطربوش فيكفي أن ينفرد بالظهور بعد العمامة ليختفي بعد أسبوع من تاريخ زوالها لأن الحملة عليه سهلة موفقة، أما القبعة التي يريدونها زيّاً لنشء هذا البلد الكريم فهي مظهر الفناء المطلق الذي تبتلع فجوته الشخصية المصرية، وتضيع في فيافيه مميزات أهل هذا البلد الظاهرية، فلا تعرفهم بسيماهم، وتراهم عبدة أزياء تغيرت ملامحهم".

798ECFA5-259C-4D32-BD81-F69067C75386

استمرت هذه المعركة لنحو ثلاثة عقود، وكانت نارها تشتعل ثم تخبو، وتحدث فيها كبار الكتاب والأدباء والمؤلفين؛ وكان من مشاركات أحمد حسن الزيات فيها قوله: "طهر رأسك يا سيدي من درن هذه الخلال، ثم ضع عليه طاقية أو لبدة أو أي غطاء شئت، ترتفع منزلتك في كل عين، وتقر هيبتك في كل صدر، فإن قيمة ذلك في الرأي الذي يحمله، والشعب الذي يمثله، لا في أصله ولا في شكله ولا في لونه، والثوب -كما يقول الفرنسيون- لا يصنع الراهب!".

دلالات
المساهمون