استهداف الصحافيين: مسدس يُصوّب على قلب أوروبا

12 يوليو 2021
ورود في مكان استهداف الصحافي بيتر دي فريس في أمستردام (إيفيرت إلزينغا/فرانس برس)
+ الخط -

تعيد محاولة اغتيال الصحافي الهولندي، بيتر دي فريس، قبل نحو أسبوع في قلب أمستردام، التذكير بأن استهداف الصحافيين لم يعد حكرًا على الأنظمة الديكتاتوريّة والتسلّطيّة. دي فريس الذي لا يزال يصارع في أحد مستشفيات هولندا، تحت حراسة أمنية مشددة، ويعمل منذ نحو 30 سنة على قضايا الجريمة المنظمة، يبدو أنه اقترب من "خطوط حمر" باتت العصابات وعلاقاتها المتشعّبة ترسمها في أوروبا، حتى شهدناها في أكثر من بلد خلال الأعوام الماضية.  

فاقتراب دي فريس من العالم السفلي لعصابات تهريب المخدرات إلى ميناء روتردام، ومنه إلى بقية أنحاء أوروبا، يبدو أنه مسّ بمصالح كثيرين في عالم العصابات والفساد التي يتوسع نفوذها في القارة الأوروبية، من اسكندنافيا شمالاً إلى مالطا جنوباً، فاستهدفوه بخمس رصاصات للقضاء عليه، بعد خروجه من محطة "أر تي إل" التلفزيونية، حيث كان ضيفاً على برنامج. 

هذا الاستهداف يعيد التذكير أيضًا باستهدافات سابقة، خلال السنوات الماضية، أبرزها في مالطا وسلوفاكيا، بحق صحافيين عملا على تحقيقات تتعلق بالفساد وعالم الجريمة المنظمة، حتى بات الأمر أشبه بالنهج. ففي القارة الأوروبية عام 2017، اغتيلت الصحافية المالطية دافني غاروانا غاليزيا في أكتوبر/تشرين الأول بسيارة مفخخة، وهي التي كانت تشتهر بالعمل على قضايا الفساد والتهرب الضريبي. وقضى بعدها بأربعة أشهر، في فبراير/شباط 2018، السلوفاكي يان كوسياك مع خطيبته، وكان الاثنان يعملان على تحقيق في صلات سياسيين محليين بالمافيا الإيطالية. وفي إبريل/نيسان الماضي، قتل الصحافي الجنائي اليوناني البارز غيورغوس كارايفز، بعدما اقترب رجلان يستقلان دراجة نارية منه، وأطلق الراكب النار عليه، حين كان عائداً من مقر عمله. وقد قُتلت الصحافية والمؤلفة ليرا ماكي، البالغة من العمر 29 عاماً، أثناء تغطيتها أعمال الشغب في أيرلندا الشمالية، في إبريل/ نيسان عام 2019. وترفع هذه الحالات الأربع، إضافةً إلى استهداف دي فريس، جرائم قتل الصحافيين في أوروبا خلال السنوات الماضية إلى خمس، ما يؤكد المخاوف المتزايدة بشأن التراجع المطرد في حرية الصحافة في عدد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

دي فريس الصحافي الخامس الذي يستهدف في أوروبا خلال 5 سنوات

واقع الحال يقول إنّ محاولة الاغتيال الأخيرة في أمستردام تقدّم صورة عن أنّ نمطًا جديدًا أصبح يتشكل في استهداف الصحافيين، وليس بالضرورة أنها كلّها تصفية جسدية أو محاولة قتل. فمن بين 50 صحافياً قتلوا العام 2020 الماضي، ولم يكونوا جميعاً في مناطق صراع وحروب، تعرّض 84 في المائة من هؤلاء لملاحقة وتهديدات قبل تصفيتهم، بحسب منظمة "صحافيون بلا حدود"، في حين تتسع أفكار التخلص من الصحافيين وإبعادهم عن طريق التحقيق في الفساد والجرائم المنظمة.  

وكان للعصابات المنظمة نصيب الأسد في المسؤولية عن استهداف الصحافيين حول العالم، وأوروبا ضمنا، منذ 2015، بحسب تقارير منظمتي "مراسلون بلا حدود" و"حماية الصحافيين". فخلال عامين بين 2015 و2017، قتل 30 صحافيا على يد عصابات من بين نحو 150 صحافيا قضوا حول العالم. والأخطر، في ما تكشفه التقارير الصحافية المختصة، وجود صلات بين مسؤولين حكوميين وتلك العصابات، وخصوصاً حين اقترب الصحافيون من قضايا الفساد. وسجلت المكسيك وحدها بين 2017 و2018 مقتل 17 من هؤلاء الصحافيين الذين عملوا في الصحافة الاستقصائية حول الفساد وصلاته بعالم الجريمة المنظمة. وفي إيطاليا نفسها، يعيش ما يقارب 200 صحافي تحت حراسة أمنية بسبب تهديدات القتل التي تطاردهم، بمن فيهم الكاتب الصحافي روبرتو سافيانو، صاحب كتاب مافيا نابولي. وحول العالم، قضى منذ 1992 وحتى 2021 أكثر من 1405 صحافيين، من بينهم نحو 899 في جرائم اغتيال وقتل مباشر، بحسب إحصائية صادرة عن "لجنة حماية الصحافيين" CPJ. 

وما يعنيه تزايد الاستهداف في أوروبا، أنّه لم يعد حكرا على أنظمة تسلطية وديكتاتوريّة، أو على مناطق الصراعات. وهو ما باتت تشهده بعض الدول، كألمانيا التي يتعرض فيها الصحافيون للضرب والاعتداء أثناء تغطية فعاليات وأحداث يشارك فيها معسكرا التطرف السياسي في البلد. وهو ما ينسحب أيضاً على دول أخرى يتعرض فيها الصحافيون لمضايقات وتهديد، وتقييد عمل من الشرطة أثناء جائحة كورونا وفعاليات الشارع المحتج. 

ففي عدد من دول الاتحاد الأوروبي، كالمجر وبولندا وسلوفاكيا والتشيك، تتعرض الصحافة لضغوط هائلة، سواء لناحية القوانين التي تقوض حرية الصحافة أو وضع الصحافيين المستقلين، غير التابعين أو المؤيدين للأنظمة الميالة إلى القومية المحافظة المتشددة، تحت طائلة الاتهام بالتخوين و"التطرف اليساري"، والتهمة الأخيرة تنسحب على حالات في السويد والدنمارك ويطلقها معسكرا التطرف القومي في البلدين. 

وإذا كان نظام بيلاروسيا، برئاسة ألكسندر لوكاشينكو، متهما بممارسة شتى أشكال تقييد الصحافة وحرية الإعلام والتعبير، وصولا إلى قرصنة جوية لاعتقال صحافي معارض، فإن الحالة الروسية ليست أفضل حالا. فقبل 15 سنة، تحول اغتيال الصحافية الروسية آنا بوليتكوفسكايا إلى مثل عن الأجواء التي يعمل فيها الصحافيون الروس غير المنخرطين في دوائر الكرملين، ما شكل لأكثر من عقد مضى تراجعا في مستوى حرية الصحافيين في موسكو، وشعور هؤلاء بتهديد متواصل. 

إعلام وحريات
التحديثات الحية

بحسب التصنيف السنوي لمنظمة "مراسلون بلا حدود"، تحتل النرويج الصدارة للعام الخامس على التوالي، رغم أنّ وسائل الإعلام واجهت بعض الصعوبات في الوصول إلى المعلومات العامة المتعلقة بالوباء. وبينما احتفظت فنلندا بموقعها في المركز الثاني، استعادت السويد المرتبة الثالثة فيما كانت الدنمارك في المرتبة الرابعة. إلا أنّ القارة الأوروبية شهدت تراجعاً بفعل تضاعف وتيرة أعمال العنف ضد الصحافيين ووسائل الإعلام داخل منطقة الاتحاد الأوروبي والبلقان، فقد سُجل تزايد ملحوظ في الهجمات ضد الصحافيين وفي الاعتقالات التعسفية في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا (34) وإيطاليا (41) وبولندا (64) واليونان (70) وصربيا (93) وبلغاريا (112). فصحيح أن أوروبا تحتل مرتبة متقدمة لناحية حرية الصحافة والتعبير، لكن الصحيح في المقابل هو أن توسع حدود الاتحاد الأوروبي وانضمام دول تتهم من عاصمة الاتحاد نفسه، في بروكسل، بتقويض تلك الحريات، واتساع ممارسات تستهدف الصحافيين فرديا، من خلال التهديد الصريح والمبطن، يضع كل تلك الحريات تحت ضغوط كبيرة، وبالأخص مع تلميحات عن تغلغل عصابات عالم الفساد والجريمة إلى مستويات نخب حزبية وحاكمة. وهنا تشير "مراسلون بلا حدود" إلى تراجع سيادة القانون وزيادة الاعتداءات العنيفة وتزايد التهديدات عبر الإنترنت، باعتبارها من بين المشاكل الرئيسية التي تهدد حرية المؤسسات الإعلامية في أوروبا. وتوضح أنّ هناك "هجوما متطورا ومنهجيا على حريات الصحافة" في المجر يلهم تكتيكات مماثلة في بولندا وسلوفينيا.

فحتى حين يشدد السياسيون على ضرورة محافظة الصحافة على مكانتها كسلطة رابعة، وأنه ينبغي أن تبقى خارج هياكل السلطة وتواصل نقدها للسلطات الحاكمة، فإن سياسيين في الاتحاد الأوروبي يعبرون مرارا وتكرارا عن ضيقهم من الصحافة والصحافيين. وهنا، يمكن استعادة توبيخ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أثناء زيارته بيروت قبل نحو عام، لصحافي فرنسي، ومواقف الرئيس التشيكي ميلوش زيمان المحرضة على الصحافيين، كما يفعل رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، ويفعل غيرهما بطريقة غير مباشرة، للإشارة إلى أن حدود استهداف الصحافيين، التي ليست بالضرورة عبر التفجير والاغتيال الجسدي، باتت تطرق أبواب الاتحاد الأوروبي أكثر من السابق. 

المساهمون