"اجتماع سرّي": لوحة سينمائية عن مؤسّسة الفاتيكان

30 ديسمبر 2024
رالف فينيس في "اجتماع سرّي": أداء مُقنع (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "اجتماع سرّي" (2024) للمخرج إدوارد بيرغر يتناول دراما سياسية دينية حول انتخاب بابا جديد في الفاتيكان، مع التركيز على التحالفات والخيانة والاستراتيجيات الدبلوماسية المعقدة بين الكرادلة.
- يبرز الفيلم شخصيات مثل الكاردينال لورانس ومرشحه الكاردينال بيلّيني، الذين يواجهون منافسين أقوياء، وتتقارب نتائج التصويت بشكل كبير، مما يعقد الأمور.
- يعالج الفيلم قضايا الإيمان والفساد ودور المرأة في الكنيسة، ويتميز بأداء مميز من رالف فينيس وستانلي توتشي وإيزابيلا روسيليني، مما يضفي جاذبية خاصة.

 

بعد فوزه بأربع جوائز "أوسكار" (النسخة الـ95، 2023)، بينها فئة أفضل فيلم دولي"، عن "كلّ شيء هادئ على الجبهة الغربية" (2022)، يُنجز الألماني إدوارد بيرغر فيلماً حربياً آخر، لكنْ من دون رصاص. يتعلّق الأمر باجتماع الكرادلة في الفاتيكان لانتخاب بابا جديد خلفاً للراحل للتوّ. تتراكم تحالفات وخيانات واستراتيجيات دبلوماسية معقّدة واتهامات مخزية، لرفع مرشّح معيّن أو تدميره.

"اجتماع سرّي" (2024) يشبه إلى حدّ كبير فيلمه السابق: قصة مطبوعة برصانتها وأناقتها وصوابيتها؛ دراما سياسية دينية تدور أحداثها أثناء انتخاب بابا جديد، تتميّز بإخراج أنيق ودقيق، وإيقاع كلاسيكي، وشخصيات رئيسية عدّة تخوض صراعات شخصية وأيديولوجية وأخلاقية. تتمثّل حيلة بيرغر في إضفاء لمسة معيّنة من الاحترام والهيبة المفترضة على حبكةٍ، كان يُمكن أنْ تكون مع سينمائيّ آخر قصة تشويق مُكثّفة، أو ميلودراما فخمة، أو حكاية بوليسية عنيفة وشعبية، تختزن نهايتها بحلّ مفاجئ وصادم.

على المتفرّج تخيُّل حبكة الفيلم نفسها (كتابة الرواية لروبرت هاريس، مؤلّف متخصّص بروايات الجريمة سهلة الهضم، كـ"أنا أتهم" و"لغز" و"الكاتب الشبح")، التي تدور أحداث منها في أطر تاريخية محدّدة، مع مخرجين عديدين، كبيدرو ألمودوفار وباولو سورينتينو وبراين دي بالما، ممن يتّبعون أساليب مختلفة تماماً عن أسلوب بيرغر، الذي سيجد متلقّي فيلمه شيئاً مُختلفاً تماماً. ورغم أنّ هذه ليست مهمّة منطقية إلى حدّ كبير، تُلائم الحبكة هذه اللعبة، لجمعها بين عوالم جافّة وقاسية وخشنة، كالمؤتمر المغلق للكرادلة، والحِيل والأفخاخ والمفاجآت التي توفّرها أفلام الإثارة في محيط مغلق.

يختار بيرغر الرصانة، ويعمل "اجتماع سرّي"، من نقطة البداية هذه، بشكل جيّد. عدم المخاطرة لا يفاجئ (الإشارة هنا إلى الجانب الشكلي، فالحبكة مليئة بالمفاجآت)، لكنّه يفي بمهمة تقديم فيلمٍ، يبدو أكثر جدّية وعمقاً مما هو عليه بالفعل. يبدأ كلّ شيءٍ بوفاة البابا غريغوري السابع عشر، ما يدفع الفاتيكان إلى تنظيم انتخاباته التقليدية (أحد أكثر الطقوس سرّية وقدماً في العالم)، التي تتطلّب مجيء الكرادلة من جميع الأرجاء. يؤدّي رالف فينيس دور الكاردينال لورانس، كبير الكهنة، المسؤول عن تنظيم التصويت. منذ البداية، يظهر أنْ لا أطماع لديه في المنصب، لكنّه يريد الحفاظ على الخطّ التقدمي الذي تبنّاه الراحل. لذا، فمرشّحه الأقوى هو الكاردينال الأميركي بيلّيني (ستانلي توتشي)، الذي يتبنّى موقفاً أيديولوجياً مماثلاً.

لكنْ، في السباق، يواجه بيلّيني منافسين أقوياء وأكثر محافظة منه، يصعب التغلّب عليهم: الكندي جوزف تريمبلاي (جون ليثغو) انتهازيّ أكثر من أي شيء آخر، وطموحه إلى المنصب واضح. هناك الإيطالي جوفريدو تيديسكو (سيرجيو كاستيليتو)، الذي يريد عودة الكنيسة إلى شكلها الأكثر عدائية وميلاً إلى الحروب. بينهما، الكاردينال النيجيري آديمي (لوسيان مساماتي)، محافظ تقليدي، عيبه الرئيسي، عند لورانس وبيلّيني، رهاب المثليّة الجنسية. عندما يبدأ ظهور النتائج الأولى للتصويت (يخرج الدخان الأبيض، الذي يُعلن اختيار البابا المنتخب، عند حصول المرشّح على ثلثي الأصوات)، يتّضح أنّ كلّ شيءٍ متقارب للغاية، وأنّه يصعب على لورانس تحصيل عدد كافٍ من الأصوات لمُرشّحه.

 

 

وسط الأرقام، هناك ما يجري خلف الكواليس، وأسرار في الممرّات، ولعبة شطرنج بابوية. في الدير، حيث يمضي الجميع لياليهم (يُعزل المشاركون الذين يُفترض بهم ألّا يتّصلوا بالعالم الخارجي)، تتجوّل الراهبات بصمت. نساءٌ ربما يعرفن أكثر ممّا يكشفن. بينهن الأخت أغنيس (إيزابيلا روسيليني)، التي لا تشارك في الأحداث في الساعة الأولى تقريباً، لكنّها ستكتسب وزناً أكبر في الحبكة لاحقاً. هناك أيضاً كاردينال مكسيكي غامض، بينيتيز (كارلوس دييز)، وصل مؤخّراً إلى الفاتيكان بعد أنْ عيّنه البابا قبل وفاته. لا يعرفه الآخرون، لكنّه يظهر بشكل لافت للنظر في فرز الأصوات. بالتوازي، تجري أحداث عنيفة، وربما هجمات، في الشوارع. أو هكذا يبدو الأمر.

مع التنبّه إلى الشخصيات المتنوعة، ومكان أحداث القصة، والاختلافات الكبيرة بين المرشّحين، والأسرار التي تنكشف، ربما يكون "اجتماع سرّي (Conclave)" فيلماً مُبالَغاً به، وأحد تلك الأفلام المثيرة "الصفراء" السخيفة، التي يُثير جانبها الرخيص صدمةً، وبمجرد استهلاكها تُنسى تماماً. لكنّ لبيرغر نيّات أخرى، إذْ يحاول جعل فيلمه أطروحة عن الإيمان والشكوك والمسارات المحتملة للكنيسة، ودور المرأة في المؤسّسة الدينية، والفساد الذي تخفيه مؤسّسات عدّة من أجل البقاء.

بطريقته الخاصة، ينجح بيرغر في ذلك. المشكلة أنّ الحبكة أقرب إلى المسلسلات التلفزيونية من الدراما الدينية الصارمة، التي يعتقد أنّه يصوّرها. يعيش "اجتماع سرّي" في تلك المساحة الحدّية بين الدراما الرفيعة والدراما البوليسية الإجرائية. صمت لورانس وجاذبيته (الفيلم يتبع منظوره حرفياً)، والأسئلة الحادّة التي يطرحها على نفسه عن إيمانه والقذارة السياسية للفاتيكان، سمة من سمات الدراما البريسونية (روبير بريسون) بامتياز. لكن السيناريو (بيتر سترون) يدفع فينيس إلى التصرّف كمُحقّق فندق، في تحوّل غريب يقرّبه من شخصيته في "فندق بودابست الكبير" (2014) لوس أندرسون. يبدو لورانس قسّاً متألّماً من فيلمٍ لكارل دراير، موضوعاً في حبكة أحد مواسم مسلسل "فقط جرائم القتل في المبنى" (2021، جون هوفمان وستيف مارتن).

لكنّ القناعة التي يضفيها فينيس على الشخصية (إلى توتشي وروسيلّيني وغيرهما) تسمح للمرء بشراء هذه الجاذبية وذاك التقشّف الذي يتصرّف به الرجل، كأنّه يحمل صليباً ثقيلاً على ظهره. يُصوّر بيرغر كلّ شيءٍ حوله بالقدر نفسه من الجدّية، أو أكبر. فكلّ حركة للكرادلة في الفضاء مُنظّمة كلوحة فنية، وحقيقة أنّ جزءاً كبيراً من الحبكة يدور في كنيسة سيستينا تصنع لمسةً إضافية من العظمة إلى هذا النمو الدرامي المتمهّل. لذا، عندما يُكشف عن اكتشافات عدّة قبل النهاية، بخاصة الأخيرة، يشعر المتفرّج كأنّها مستوردة من فيلمٍ آخر. يتعامل بيرغر مع هذه الاكتشافات بعناية وصوابية سياسية أنيقة، لكنّها تظلّ مفاجأة نموذجية لتلك التي تنشأ بين الحلقتين قبل الأخيرة والأخيرة من مسلسل تلفزيوني.

أخيراً "اجتماع سرّي" مُثير للاهتمام، لتحليله خارج أنساقه وموارده الشكلية. في إطار آلياته السردية المتشابكة، يرصد التغيّرات التي تطرأ على المجتمع، وكيف تختار الكنيسة مواجهتها، ويطرح في نقاشه وجهات نظر عالمية مختلفة للغاية، ومتعارضة تقريباً، في تلك المؤسسة. وأيضاً، يتساءل عن الإيمان، وإلى أي مدى يُمكن استخدامه سلاحاً لتكثيف الصراعات وزيادة الخلافات. إنّه في جوهره عبارة عن حكاية تقدّمية في صيغة محافظة. هنا تكمن الدراما اللافتة للانتباه، التي تجرى عبره من البداية إلى النهاية.

المساهمون