إيريك كانتونا: الكرة مثل المرأة تعشق المداعبة

14 ابريل 2014
+ الخط -

صرّح لاعب كرة القدم السابق، إيريك كانتونا، ذات يوم بجملة أثارت، ما أثارته من إرباك ورغبة في الإدراك: أنا لست رجلاً، أنا كانتونا.

على الرغم من أنّ اللاعب الأسطورة ترك الملاعب منذ زمن بعيد، إلا أنّ الفرنسيين لا يزالون يحبّون جمل وحِكَم، إيريك كانتونا، المتحدر من أصول إسبانية وإيطالية، بطريقة ملتبسة. البريطانيون توّجوه ملكاً عليهم: "كينغ". بل وهو الشخصية الفرنسية الأقرب إلى نفوسهم.

كان، إيريك كانتونا، اللاعب الماهر يمنح الفرنسيين الإحساس بالكبرياء والاعتزاز بالهوية. وهم يسترجعونه كلّ مرّة، لم ينسوا له أنّه بفضله كان البريطانيون، المعروف عنهم أنّهم لا يكنّون مودّة للفرنسيين، يهمون بترديد النشيد الوطني الفرنسي، كلما لامست قدماه كرة القدم في مباراة مع فريقه البريطاني "مانشستر يونايتد".

وذهب الفخر الفرنسي مدى أبعد حين انتخب جمهور "مانشستر" البريطاني اللاعب الفرنسي لاعب القرن (العشرين) في مانشستر. ولأنّه "لا كرامة لنبيّ في بلده" فالفرنسيون، وعلى الأقلّ الرسميون من
هم، لم يقبلوا به لاعباً في المنتخب القومي، بسبب "عدم دبلوماسيته" في تصريحاته ومواقفه. وأضاعت فرنسا فرصة الاستفادة من مواهب شخص نادر في كرة القدم. 

والشخص ممتلئ بالكبرياء والاحساس بالكرامة. أحياناً بشكل مبالغ فيه. وهو ما جعله يقفز مرّة من ملعب الكرة باحثاً عن متفرّج كان يسخر منه، ليشبعه ضرباً. وهو ما جعله يتعرّض الى عقوبات تأديبية تمثلت في إجباره على عمل خيري تطوّعي مع الأطفال.

معظم الرياضيين تنتهي حياتهم تقريباً حين يتقاعدون عن اللعب. لكنّ، كانتونا، فاجأ الجميع من خلال قدرته على التقمّص والتنويع. فقد أسّس الفريق الوطني الفرنسي لكرة القدم الشاطئية بمعية أحد إخوته، ما عزّز شعبية هذه الرياضة الفتية، التي يتقنها البرازيليون، ويتفوّقون فيها.

ولئن كان الفارق ليس كبيراً بين الكرتين، كما قد يقول قائل،  إلا أنّ كانتونا، لم يتوقف عند هذا الحدّ بل إنّه جرّب أشكالاً فنية متعدّدة، إلى جانب كرة القدم، التي لا تزال تعتبر فناً صغيراً. 

الرسام والمصور

قليلون فقط يعرفون أنّ كانتونا، كان يهوى الرسم ولا يزال، وأنّه لم يتوقف عن استخدام الريشة حتى حين كان يلامس الكرة ويسجل الأهداف، متسبباً في سعادة جمهور يعشق الكرة بجنون. ودليل على عشقه الفنّ أنّه جامع لوحات فنية، وفي ملكيته لوحات عديدة، لبيير أمبروجياني، وأنطوان فيراري، وأوغست شابود، ورونان باروت، وداميان ديروبيكس، وغيرهم. كما أنّه يعشق التصوير ويمارسه ولديه مقتنيات من الصور لكل من، سول ليتر، وسارة مون، وسابين ويس ولوسيان هيرفي وغيرهم...

وبالفعل فقد أنجز، إيريك كانتونا، كتاب بورتريهات بعنوان: "هي، هو والآخرون"، لأناس لا يقيمون في مساكن لائقة، وذلك لفائدة مؤسسة القسّ بيير Abbe Pierre الفرنسية الخيرية.    

ومنذ توقفه عن مداعبة الكرة شارك في أفلام كثيرة، منذ سنة 1995، منها فيلم "السعادة وجدت في المرج" للمخرج إتيان شاتيليي، (1995)، إلى "معاً، فائض عن اللزوم" للمخرجة ليا فازير. ولعلّ من أهمّ أفلامه مشاركته في فيلم (شبه أوتوبيوغرافي) من إخراج كين لوتش، الذي يعتبر الأب الروحي للسينما الانجليزية الجديدة، ما منحه شهرة إضافية، وجعله يصعد مدرجات "كان" السينمائية، مثل كبار النجوم.

رشيدة براكني

وإذا كان ما من عظيم إلا وخلفه امرأة، كما يقال، فإنّ بعض الفضل يعود إلى زوجته، الفنانة المسرحية الجزائرية المقتدرة، رشيدة براكني، ولهما ولد اسمه أمير. يقول عنها في لمسة من الحنان والصدق: لو كنتُ امرأة فنانة كنت سأفضلُ أن أكون رشيدة براكني.

والجدير ذكره، أنّ رشيدة براكني شدّت الأنظار إليها لدراستها التمثيل المسرحي في "كونسرفاتوار" العاصمة الفرنسية. ونجحت، حين خسرت كثيرات، في إيجاد مكان لها في مسرح "الكوميدي فرانسيز" La comedie francaise العريقة. وقد نالت رشيدة العديد من الجوائز من بينها جائزة "موليير" التي تُمنح للاكتشاف المسرحي، وجائزة، جان جاك غوتييه، للمواهب الشابة. ولعلّ هذه الفنانة العربية كان عليها أن تشتغل أكثر من الآخرين حتى تصل إلى المكانة والاعتراف اللذين تعرفهما الآن.

وإذا كان، إيريك كانتونا، قد جرّب السينما، فإنّ صعوده إلى خشبة المسرح يعود الفضل فيه إلى زوجته رشيدة براكني، التي أخرجت مسرحية "في مواجهة الفردوس"، وأدارت الممثل، كانتونا. وهو اعترف أنّها "أصرّت على أن تكون أول من يدير، كانتونا، مسرحياً".

حنكتها كانت عاملاً على منح الثقة لكانتونا، الذي لا يبدي أيّ خوف وقلق من الإقدام على المغامرة: "هدفي، وأنا صغير، كان يتمثل في تمثيل مسرحية أمام 80 ألفاً من المتفرجين، وقد قمت بالأمر... فما بالك بقاعة تسع 400 مقعد... إذا لم نضع أنفسنا موضع الخطر فلا يمكننا أن نعرف أنفسنا...". ويضيف: "أناس يصفرون ويصرخون ويقذفون الطماطم، عرفت هذا. إنه فقط ملعب آخر. وسأظلّ طفلاً".

كانتونا، يصرّ: أن تكون فرنسياً فهذا معناه أن تكون ثوريا. لذا لم يجد حرجاً في التصريح بمواقفه وآرائه السياسية، كما كان يفعل اللاعب، ليليان تورام، خلافاً لكثيرين من بينهم اللاعب زين الدين زيدان، الذين لم يُعرف عنه اتخاذ موقف سياسي كبير. وهو ما جعل الكاتب الفرنسي الشهير، مارك إدوارد ناب، يخصّص لزين الدين، زيدان، كرّاساً هجائياً قاسياً، يفضح انتهازيته وتخلّيه عن أصوله ومواطنيه، بل وشعوره بالنقص لهذه الأصول.

ومثل كثيرين أصيبوا بالغثيان من نقاش دار في فرنسا حول  "الهوية الوطنية"، قال إيريك كانتونا رأيه:  أن تكون فرنسياً ليس معناه أن تنشد النشيد الوطني، ولا أن تقرأ رسالة غي موكي، بل قبل أيّ شيء أن تكون ثورياً في مواجهة نظام يرغم الناس على العيش في الشارع".

ويضيف: لا أقول إنّ ترديد النشيد الوطني مسألة غبية، لكنّ تشييد كل هذا (الهوية الوطنية) على هذا... لا يمكننا أن نقبل بكل ما يحدث". وأضاف شارحاً غرضه من كتاب بورتريهاته، بالأبيض والأسود، عن البؤس: "من غير المقبول أن يحدث الأمر في بلد غنيّ كفرنسا".

لم يكن الغرض من الكتاب السقوط في خطاب بؤس واستجداء، بل هو "إبراز أنّ هؤلاء الضحايا جميلون ولا يستسلمون"، يقول، ويسترسل في شرح طريقته بالتصوير: "الأسود والأبيض هو خياري. لديّ ثيمات في التصوير. بدأت بالتجريد، ثم أنجزت عملا عن مصارعة الثيران. وفيما يخصّ هذا العمل فقد فرض عليّ الأسود والأبيض نفسه".

وبلمسة تقدير، وحنان للذين قبلوا أن يصوّرهم يقول: "أعرف أنّ هؤلاء الناس جميلون. أرى هذا الجمال في عيونهم. وهذه الصور هي تحديداً ما كنت أريد أن أفعله".

ويذهب كانتونا، بعيداً في شرح فلسفته الخاصّة بالتصوير: "أريد أن أرى في الصورة الشعور الذي يتملّكني حين ألتقطها، حتى أكون بصفة مستمرّة في الانفعال، وأترك عيني مفتوحتين على العالم، ثم أحسّ، بصفة جدّ أنانية، أنني لا أزال حيا".

الحقيقة أنّ كانتونا، خلق بالفعل شخصية أسطورية عن نفسه. إذ حتّى تصريحاته تذهب أمثالاً. تصدم بغرابتها ولكن بنكهة شعرية وشاعرية لا نجدها إلا عنده. وتكرر وتنتقل إلى عالم "النيت" الشاسع فتحدث تأثيراً يفوق الغرض الذي من أجله تفوّه بها صاحبها. وهذه عيّنات من هذه الحِكَم الكانتونية:

- أنا لا ألعب ضدّ فريق بعينه، بل ألعب كي أحارب فكرة الخسارة.

- حين يتحدث عنك الناس فمعناه أنّك موجود.

- الحياة دائما بالغة القسوة، كلّ ما نستطيع فعله يتمثّل في تمرير الكرة وترك الشمس تسطع. على أمل أن تسطع على كل الناس.

وعن، إريك كانتونا، الفنان يُعرّف:

- الفنان هو الذي يمتلك موهبة إضاءة الغرفة السوداء.

-  حين لا نعرف شيئاً، نُصاب بالخوف.

-  كل كائن مختلف، خارج عن النموذج، يعتبر مجنوناً.

- الكرة مثل المرأة تعشق المداعبة...

- في لحظة المغادرة نكتشف مقدار التعلّق بمكان ما، وبمنزل ما، وبأسرة ما.

- البريطانيون اخترعوا كرة القدم، والفرنسيون نظّموها، والإيطاليون مسرحوها.

- حين تتبع النوارس قارب صيد فلأنّها تعتقد أنّه سيقذف أسماك السردين في البحر.

الكثيرون يرونه خيميائيا بالفعل، أيّ قادراً على تحويل كلّ الصعوبات إلى نجاحات.. ولعلّ أولى هؤلاء زوجته، رشيدة براكني، التي ضبطت توحشّه واندفاعه.

 

 

المساهمون