"إميليا بيريز" لجاك أوديار: براعة سينمائية في مقاربة ما لا يعرفه

05 اغسطس 2024
غاسكون وأوديار في "كانّ 2024": جائزتا التمثيل ولجنة التحكيم (ستفان كاردينالي/Getty)
+ الخط -

 

في "إميليا بيريز" (2023)، صَنَعَ الفرنسي جاك أوديار (1952) شيئاً جديداً مليئاً بالحيوية والتأثير، وحَلَّق عالياً بفيلم صاخب بمنتهى الهدوء والحذق. أمر كهذا ليس سهلاً، إذْ يواجه صعاباً ومجازفات، ويتطلّب معالجات سينمائية مختلفة، بمستويات عدّة، من دون اتكاءٍ على تجارب سابقة له، باستثناء ما راكمه من خبرة، وما امتلكه من موهبة.

في أكثر من مستوى، قَطَعَ أوديار في جديده هذا خطوات شاسعة. خاض في سينما غير سينماه، تخشى الغالبية خوضاً فيها، حتى إنتاجياً. ذهب إلى بلدٍ غير بلده، وإلى لغةٍ غير لغته: المكسيك ولغتها الإسبانية، وأبطال مكسيكيون لا يعرفهم، وموضوع بعيد عنه كلّياً كأوروبي. عصابات مخدرات وجريمة. صحيحٌ أنّه أخرج فيلماً (Les Freres Sisters ،2018) بإنكليزية الغرب الأميركي، مُصوّراً الوسترن في قلب أميركا. لكنّ الإنكليزية لغة عالمية، وصُنع الفيلم بنظام الاستوديو، مع نجوم معروفين. لذا، لا تحدّيات ضخمة، كما في "إميليا بيريز".

بعيداً عن مشاكل السيطرة على عائق اللغة، واختيار وتوجيه وتدريب ممثّلين ومجاميع بلغة أخرى، رغم تعامله مع أصنافٍ شتّى من الممثلين، محترفين وغير محترفين، ذوي جنسيات مختلفة (عرب وآسيويون وأميركيون وفرنسيون)، إلا أنّ تحديات كبرى تواجهه، تتعلّق بطبيعة النوع السينمائي نفسه.

لا يؤدّي الممثلون أداءً عادياً، بل دراما غنائية راقصة. هناك تحدّيات إخراجية أمامه، مُتعلّقة بأنّه غير مُتمرّس في هذا النوع، وهناك ضرورة قصوى يفرضها هذا النوع: كوريغرافيا يُفترض بها أنْ تتّسم بالحداثة والجذب والتشويق، وجعلها تخدم البناء الدرامي وتطوّر الأحداث، لا إعاقتها.

هذا يستلزم الاستعانة بمواهب استثنائية: براعة في كتابة كلمات أغانٍ ممتعة وسريعة ومرحة، ومن له قدرة على التحكم في مجاميع تمثّل وترقص وتغنّي، في سياق درامي مُقنع للغاية، لا سيما أنّه يتناول الجريمة والعصابات والمافيا والقتل والعنف وتقطيع الأوصال. هناك حاجة أيضاً إلى مُصوّر يبرز كلّ هذا المجهود، ويصنعه بصرياً كما يريده مايسترو العمل. النتيجة النهائية: هناك صعوبة في تصديق أنّ هذا الفرنسي يُخرج، لأوّل مرة، دراما غنائية مافيوية شبه استعراضية، كأنّه مُتخصّص بهذا النوع تحديداً.

ربما يأخذ البعض على "إميليا بيريز" تقديم حبكة خطية تقليدية، مواضيع وشخصيات وتطوّراً وخطوطاً فرعية، وإنْ لم يكن الفيلم هكذا إلى حدّ بعيد. هناك صعوبة التكهّن بالأحداث وسيرها وردود أفعال الشخصيات. هذا ينسحب على جوانب أخرى، كما على أفكار مطروحة، رغم بعض النمطية. لكنّ الفيلم إجمالاً ليس سطحيّاً، خاصة شخصية إميليا المثيرة. لم يطغَ شقّه الموسيقي على توازن الطرح والأفكار وعمقهما. لذا، يمكن تأكيد أنّه فيلم عصابات تأمّلي ونفسي ووجودي، بكثير من الإثارة والتشويق والتسلية، والمُتعة أولاً. تفاصيل كثيرة تعكس مدى الجهد المبذول من أوديار لإنجاز فيلم رائع وممتع. يكفي أنّه، في 130 دقيقة، لا يوجد شعور أنّه خليط سينمائي مُفتعل أو زائف أو غير مُتجانس، أو يشوبه نقص.

عادة، يهتمّ أوديار كثيراً بالموسيقى التصويرية، وعدد منها عالقٌ في الذاكرة، كموسيقى ألكسندر ديبلا في Les Freres Sisters. في جديده، تزداد الجرعة، فتبلغ 12 فقرة غنائية راقصة متنوّعة الكلمات والمواضيع والأداء الغنائي، وتصميم الرقصات وتنفيذها، للممثلات والمجاميع.

تأكيد إضافي على تحليقه الإبداعي المتكامل، ينعكس في توظيفه البصري المبدع، ودمجه الساحر للديكور والملابس والألوان المختارة، وتناغمها معاً باعتناء، خاصة في الفقرات الغنائية، فتشكّل لوحات فنية وجمالية ودرامية مبهجة، تخدم النص، لا تقتحمه ولا تكون مفتعلة ومحشورة لمجرّد رغبة المخرج في ذلك. الأهمّ، إدراكه الماهر لتوقيت بدايتها بغتة، فتُفاجئ؛ وتوقيت الانتهاء من دون استئذان، فيُدهش توقّفها.

المحامية الشابة ريتا تُعاني توتراً مفرطاً وتقليلاً من قيمتها، وأموراً أخرى غير مُنصفة في حياتها المهنية. تتلقّى عرضاً مشبوهاً من عميل لا تعرفه. بحذر شديد، لتجنّب اغتيال محتمل، تلتقي أكبر زعيم مافيا مكسيكي، يُدعى مانيتاس ريتا (كارلا صوفيا غاسكون، الممثلة استثنائية الأداء، والمتحوّلة جنسياً في الواقع). يُخبرها عن سبب استدعائها، ويغريها بأموال كثيرة، ويُهدّدها في مقابل سرّية مطلقة لتنفيذ طلبه: "أريد التحوّل إلى امرأة"، لا لخشيته من الشرطة، أو لإخفاء هويته الإجرامية، بل لرغبة دفينة فيه، نفسية وبيولوجية، تتملّكه وتسيطر عليه، رغم قوّته وسلطته وأمواله، وحياة زوجية سعيدة، وامرأة شهوانية جميلة يحبّها بجنون، جيسي (سيلينا غوميز)، وأولاد يعشقهم.

 

 

تقبل المهمة، وتبحث عن أطباء تغيير الجنس في العالم، فيوافق أحدهم وتتمّ الأمور وفقاً لمخطّط مانيتاس، أو إميليا بيريز. نقطة قوية تتمثّل بالرقّة التي عالج بها أوديار تحوّل إميليا، من دموع السعادة المتسرّبة من وجهها المُضمّد، إلى التمكّن من النطق باسمها الجديد بصوت عالٍ، والتدرّب على التعريف بنفسها، وعدم الغرق في موضوع التحوّل الجنسي. يتيقن الجميع أنّ مانيتاس جرت تصفيته من عصابةٍ، وانتقلت أسرته إلى سويسرا خشية اغتيالها. بعد سنوات من الاختفاء، تلتقي إميليا بريتا، التي تخاف من أن يكون اللقاء لمحو آخر أثر للماضي. لكنّ إميليا تطلب إحضار زوجته ـ أرملته جيسي وأبنائهما إلى المكسيك، للعيش معها باعتبارها عمّتهم المفقودة، التي لا يعلمون شيئاً عنها.

تترقّب ريتا اللقاء بحذر، خشية انكشاف الأمر. ترحّب إميليا بعودة جيسي والأبناء إلى حياتها، والعيش مُجدّداً في المكسيك، وانخراطها في عمل خيري، وإنشاء مؤسّسة تبحث عن المفقودين وضحايا جرائم القتل والخطف. عبر المؤسّسة، تتعرّف إميليا على إيبيفانيا (أدريانا باز)، زوجة مغدورة، تساعدها على إعادة اكتشاف الحب والحنان والرغبة. السعادة الجديدة لإميليا لن تكتمل، لأنّ جيسي تتواعد مع غوستافو (إدغار راميريز)، وتبدأ تمرّداً على قيود إميليا وتحكّمها وسيطرتها وترتيباتها لحياتها الخاصة ولأولادها، ما يدفعها إلى الهرب معهم للنجاة منها.

هذا يجعل في الثلث الأخير نهاية عنيفة: خطف وبنادق ودماء وقتل. لكنّها لا تُضعف الفيلم، ولا تُقلّل من اشتغال أوديار. فنياً، هذا تذكيرٌ بنوع الفيلمٍ وطبيعته ومكانه وموضوعه وضرورياته.

تحت السطح الخادع لـ"إميليا بيريز"، هناك أسئلة كثيرة ملغومة يطرحها أوديار بدهاء، لم يسبق لأفلامٍ عدّة تناولت التحوّل الجنسي البيولوجي وناقشتها: هل تغيير الجنس يُغيّر أموراً أخرى، داخلية غريزية تحديداً، في حياة المرء؟ أيمكن التخلّص من السيطرة والتحكّم والوحشية والغيرة ومشاعر الأبوّة ـ الأمومة؟ لماذا يتمحور الفيلم حول شخصية امرأة ممزّقة بين ماضيها وذواتها السابقة، وتسعى أولاً إلى الشعور بأنّها ذاتها الحقيقية، ثم إلى التطهّر من ماضيها، وإلى إصلاح ما يمكن إصلاحه، ولَمّ شمل عائلتها، والوقوع في حبّ ومتعة؟

بشكل مثير للإعجاب، فلسفياً ونفسياً، يُعَقِّدُ جاك أوديار حياة إميليا عمداً، ليبدو الأمر كأنّ تحوّلها الجسدي التصحيحي فشل على نحو مأساوي في مساعدتها على تطهير نفسها من آثامها. وفي تحوّلها الاجتماعي، تصبح فكرة السعادة فاسدة، طالما ظلّ ماضي إميليا من دون مواجهة. هذا يستدعي تأمّل كلمات أغنية سابقة على إجراء العملية الجراحية: "تغيير الجسد يُغيّر الروح، وتغيير الروح يُغيّر المجتمع، وتغيير المجتمع يغيّر كلّ شيء". فهل حقّقت إميليا بيريز شيئاً من هذا؟

يُذكر أنّ "إميليا بيريز"، الجدير أصلاً بـ"سعفة ذهبية" في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ"، مُنح جائزة لجنة التحكيم، وجائزة أخرى غير مسبوق منحها، لا في "كانّ" ولا في غيره: جائزة التمثيل للممثلات الأربع مناصفة: زوي سالدانا وغاسكون وغوميز وباز. جائزة استثنائية، ستظلّ فرادة وجرأة منحها في "كانّ" حاضرة في سنوات مقبلة، وربما في عقود.

المساهمون