يستحيل أنْ يبقى كورونا خارج صناعة الصورة، السينمائية والتلفزيونية، في العالم. هذا غير معنيّ فقط بتلفّت الصناعة إلى الوباء وتأثيراته، الصحيّة والاجتماعية والنفسية والثقافية والأخلاقية، على الناس، في دولٍ ومجتمعاتٍ. بدخوله إلى تلك الصناعة، يُصبح الوباء جزءاً أساسياً من مفرداتها، ومن سلوك شخصياتها في تفاصيل عيشهم ومهنهم. وبخضوعها الإلزاميّ لمتطلّبات الحماية من الوباء قدر المستطاع، تواكب الصناعة راهناً يتخبّط في أشيائه كلّها، لأنّ الوباء مستمرٌّ في طغيانه، ولأنّ اللقاحات المُصنّعة حديثاً تواجه تحدّياً قاسياً، يتمثّل بـ"أولوية" مصالح السياسة والاقتصاد والتجارة بين أنظمة حاكمة، قبل بلوغها المُحتاجين إليها، وهم كُثر.
مستلزمات الوقاية من الإصابة بكورونا حاضرةٌ بوفرةٍ في حلقات متتالية من مسلسلات أميركية، تتوزّع على عوالم عدّة: المستشفيات، الإطفاء، المحاماة، التحقيقات البوليسية والفيدرالية، المحاكم. هذه أمثلة. منذ أسابيع، يندر أنْ يظهر أحدهم في حلقات متتالية من تلك المسلسلات من دون كمامة. يندر ألاّ يُعقِّم آخرٌ يديه قبيل دخوله مَكتباً أو قاعة عامّة. الفواصل الزجاجية في المكاتب جزءٌ من الديكور، والتباعد بين الأفراد إلزاميّ، رغم أنّ مهناً قليلة يصعب على عاملين فيها التزاماً صارماً بالتباعد، كرجال الإطفاء ونسائه (رغم ارتدائهم أصلاً ما يقيهم تواصلاً مباشراً مع الناس)، ومحقّقين ومحقّقات عند مطاردتهم متّهمين أو مُشتبهاً بهم.
مستلزمات وارتباكات
المسألة حسّاسة للغاية: هذه المستلزمات مفروضة في يوميات العيش، والشخصيات التلفزيونية منبثقة من واقع الحياة، ما يُخضعها لشروط الوقاية الصحية التي يلتزمها كثيرون. أيّ أنّ الكمامات أساسيّة في تصميم الأزياء، والتعقيم ضروريّ في حالاتٍ محدّدة ومعروفة، ما يجعلها تتطابق وتصرّفات الممثلين والممثلات في حياتهم العادية. هذا يعني أنّ جديداً يُضاف إلى فنّ التمثيل، فالكمامة تَحُول دون تواصل بين الشخصيات ومُشاهدي أفعالها وتصرّفاتها. الالتزام بها يُنقِص من التأثيرات التي تصنعها ملامح الوجه، وعلى المُشاهد أنْ يرى الوجوه من دون كمامات لفهم ما تعنيه الملامح أحياناً. نبرة الصوت تتبدّل، وإن قليلاً، مع الكمامة، رغم أنّ التقنيات الحديثة تُصحِّح هذا الأمر، فتجعل النبرة طبيعية، لكنّها (التقنيات الحديثة) تعجز عن منح نبرة الممثل أو الشخصية طبيعيّتها الحقيقية، فالتلاعب التقني بالصوت ضرورة فنية غالباً.
الكمامة تزيد الأمر سوءاً، لكنّها مفروضة حالياً. لذا، تُخلع في أمكنةٍ مختلفة، فالحاجة ماسّة إلى إزالة عوائق بين شخصية ومتابِعِها، من دون تناسي العائق الأبرز وغير الحاضر في المسرح مثلاً، أي الشاشة.
للمسرح متطلّبات أيضاً، لكنّ السؤال يكاد يكون واحداً: إلى متى ستبقى الصالات المسرحية مغلقة؟ بلاتوهات المسرح قابلةٌ لالتزام شروط الوقاية، فهل تُفرض على الممثلين والممثلات الكمامات على الخشبة؟ هل يتوجَّب عليهم تعقيم الأيدي بين حينٍ وآخر وهم يؤدّون أدوارهم أمام المُشاهدين؟ إنْ يكن قرار الإغلاق واحداً للصالات المسرحية والسينمائية، تجنّباً لمزيدٍ من إصاباتٍ، يرتفع عددها يوماً تلو آخر رغم الإغلاق العام وشبه التام؛ فالمأزق كامنٌ في الفرق الشاسع بين صناعة الأفلام وتحقيق المسرحيات: في الأولى، يُفرض على جميع العاملات والعاملين، من دون استثناء، التزام وسائل الوقاية كلّها أثناء تنفيذ عملٍ ما، إلى حدّ أنّ مسؤولي استديوهات عدّة، بالاتفاق مع الجهات الإنتاجية، غير متردّدين البتّة عن إيقاف التصوير، كلّ 5 ساعات، للتذكير بضرورة تغيير الكمامات. نتيجة هذا كلّه؟ يُمكن مُشاهدة أفلامٍ سينمائية وأعمالٍ تلفزيونية بفضل منصّاتٍ مختلفة، وبعض المهرجانات يُنظِّم دوراتٍ "أونلاين".
هذا سهلٌ. لكنْ، ماذا عن المسرح؟ ماذا عن الحفلات الموسيقية؟ تجربة متواضعة، تتعلّق بعروضٍ موسيقية عامة، تكشف عقم المحاولة لانتفاء أبرز متطلباتها: تواصل حسّي بين فرق موسيقية ومُشاهدين مستمعين في الصالات نفسها. ترتكز التجربة على إحياء أمسية موسيقية أمام صالة فارغة، والمهتمّون يتابعونها افتراضياً. هذا مُسيء للغاية. الأمسية الموسيقية غير متشابهة إطلاقاً بعروض "المصارعة الحرّة"، وتحديداً "المصارعة العالمية الترفيهية (WWE)"، التي تُقدِّم مبارياتها في صالةٍ ممتلئةٍ بشاشاتٍ، تُظهر وجوه متابعين ومتابعات لها افتراضياً. الحماسة المطلوبة لمباريات كهذه تحضر عبر الشاشات، لكنّ حُسن الاستماع إلى الموسيقى في صالة خاصّة بها غير مستقيم إنْ يحدث افتراضياً.
الحماسة هذه مطلوبة في مباريات كرة القدم وكرة السلّة، لكونها جزءاً أساسياً من قواعد اللعبة والتنافس، ولأنّها تساهم، نفسياً مثلاً، في "نشاط" اللاعب والفريق، من أجل فوزٍ منشود. فهل يُعقل أنْ تُقام مباريات رياضية كهذه من دون جمهور؟ ألن تكفي تجربة سابقة، مُكرّرة مرّات عدّة، تتمثّل بـ"منع" مُشجّعين عديدين من حضور مبارياتٍ (بسبب فوضى يصنعونها في الملاعب، تبلغ أحياناً عنفاً غير مقبول)، تُشارك فيها فرقٌ يتحمّسون لها؟ أليس هذا مشهدا غير مُستحبّ، بجوانبه المختلفة؟
التشجيع الافتراضي لمباريات المصارعة الحرّة، الذي يصنع حماسة وغلياناً في الصالة الأصغر حجماً من ملعب رياضي، غير شبيهٍ البتّة بتشجيع مماثل في مباريات كرة القدم وكرة السلّة. هاتان رياضتان تحتاجان إلى جمهورٍ يرافق اللاعبين في صراعهم من أجل الفوز. الأعمال المسرحية والأمسيات الموسيقية تحتاج بدورها إلى مُشاهدين/ مُستمعين، من أجل "حماسةٍ" من نوعٍ آخر، غير معنيّ بأيّ فوز: هناك تواصل مباشر، يُفترض به أنْ يُساهم في حماسة العاملين والعاملات على الخشبة، ما يصنع سحراً إضافياً، ينبثق من سحر العمل والأمسية (هذا مرتبطٌ بأعمال فنية راقية، ولا علاقة له إطلاقاً بأعمالٍ تجارية استهلاكية مسطّحة).
مشاهدات افتراضية
محاولة تقديم أعمالٍ مسرحية ضمن شروطٍ يفرضها كورونا، وإنْ يكن عددها قليلاً للغاية، غير متمكّنة من إيجاد فسحةٍ تُتيح للمسرح تواصلاً صحّياً مع مُشاهديه. إنْ يلتزم من يعمل في صناعة المسرح شروط الوقاية والسلامة العامّة في التمارين، فهل يتمكّنون من التزامها في تقديمهم المسرحية يومياً أمام الجمهور؟ المطالبة بفتح الصالات السينمائية، مع التزامٍ صارم بقواعد جديدة للمُشاهدة العامّة، كالحاصل في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائيّ الدولي"، منسحبةٌ على الصالات المسرحية والموسيقية، رغم أنّ هذا يطرح سؤال الربح والخسارة، بالنسبة إلى الإنتاج والتوزيع وأصحاب الصالات والعاملين والعاملات فيها، إذْ إنّ أحد شروط السلامة العامة يقضي بضرورة تقليص عدد المشاهدين في الصالات إلى نصف عدد المقاعد. إضافة عروض سينمائية مع هذا الشرط تزيد التكلفة أيضاً.
لكنْ، ماذا عن التمثيل المسرحيّ؟ أيلتزم الفنانون والفنانات بالكمامات أثناء عرضٍ مسرحيّ يومي مفتوح على الجمهور؟ أيصلح هذا؟ في أعمالٍ تلفزيونية عدّة، هناك مساحات زمنية تختفي فيها الكمامات عن الوجوه، فيرتاح الممثل/ الممثلة، والمشاهدون/ المشاهدات أيضاً. فهل يُمكن فعل هذا على خشبةٍ تعرض عملاً مسرحياً، أو تشهد حفلة موسيقية؟ أيقدر الممثلون والممثلات على وضع الكمامات طوال مدّة العرض؟ أيتمكّن العازفون والعازفات من فعل هذا أيضاً، في تقديمهم أمسية ما؟ إنْ يكن الجواب إيجابياً، فلماذا يستمرّ قرار الإغلاق التام، مع أنّ شرط المُشاهدة والاستماع يكمن في التزام قواعد السلامة العامة؟ لماذا يستمرّ قرار الإغلاق التام أصلاً، طالما أنّ عدد الإصابات والوفيات في العالم يزداد يوماً تلو آخر، مع إغلاقٍ هنا وهناك، يُفرض على مؤسّسات ومحلاّت وأمكنة عامة؟
السينمائيّ الروماني، رادو جود، بارعٌ في تحويل مستلزمات الوقاية إلى أدوات مُكمِّلة للمشهد واللحظة الدرامية والمناخ العام والسياق الحكائيّ، وللشخصيات أيضاً، نفسياً واجتماعياً وجسدياً. في جديده "مضاجعة فاشلة أو بورنو مجنون" (2021)، الفائز بجائزة "الدبّ الذهبيّ" لأفضل فيلم في مسابقة الدورة الـ71 لـ"مهرجان برلين السينمائي" (المُقامة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021)، تبدو إيمي (كاتيا باسّكاريو) كأنّها مولودة بكمامة، لشدّة التزامها بها دائماً. شخصيات محيطة بها تلتزم الكمامات، كالتزامها التعقيم والتباعد في الأمكنة التي تضمّ أكثر من فردٍ. ورغم أنّ الموضوع والحالات والتفاصيل والمبطّن والمباشر، في النصّ والاشتغال السينمائي، غير معنية البتّة بكورونا وتأثيراته وشروطه؛ تتمكّن المظاهر القليلة للوباء من انسيابها في نسيج الحبكة والشخصيات والمسارات، من دون انْ تُشكِّل عائقاً أو نفوراً (رغم حاجةٍ إلى معاينة الوجوه وملامحها وتبدّلاتها)، خصوصاً أنّ في المبطّن والمباشر معاً استحضاراً لماضٍ وحضوراً لراهنٍ يحثّان على السخرية المرّة من وقائع وتفاصيل، فإذا بمستلزمات كورونا تمنح الفيلم شكلاً يتلاءم والفضح العميق والقاسي لأحوالٍ وحالاتٍ، يبدو أنّ الكمامات والتعقيم والتباعد أفضل وسيلة لتحصين الذات منها.
هذا غير حاضرٍ، إلى الآن على الأقل، في غالبية الحلقات التلفزيونية الجديدة. ففيها، كلّ شيء يستمرّ كالسابق، في أحوالِ مهنٍ وحالات وعلاقات إنسانية، مع إضافة تأثيراتٍ عدّة لكورونا على الحياة اليومية للناس، من دون بلوغ أي حدّ آخر. حلقات تضجّ بكلّ ما هو إنسانيّ ومتعاطف مع آخرين، خصوصاً في مسلسلات منضوية في إطار المستشفيات، بما يتناقض وتقارير مختلفة تقول بسوء كبيرٍ في إدارة الملف الصحّي العام أصلاً في الولايات المتحدّة الأميركية، وفي إدارة أزمة كورونا خصوصاً، بسبب رعونة دونالد ترامب في التعامل مع الوباء، ولأسبابٍ أخرى متّصلة بواقع الحال الصحّي المرتبك والمهترئ أساساً. ربما لهذا تجهد مسلسلات عدّة في التكفير عن ذنبٍ ترتكبه المؤسّسات الصحية في تعاملها مع المرضى، الفقراء والمشرّدين منهم خصوصاً.
أزمات
عربياً، الوضع أسوأ بكثير من ذاك الذي يعرفه الغرب. معلومات تقول إنّ عاملين وعاملات في تنفيذ مشاريع تلفزيونية عربية مؤخّراً يُصابون بكورونا، فلا إجراءات وقائية ولا التزامات صارمة بشروط السلامة العامة. سينمائياً، يندر الاهتمام بكورونا وتأثيراته في أفلامٍ تظهر مؤخّراً، رغم نتاجاتٍ متفرّقة، تتظلّل بالوباء، وتروي شيئاً من تأثيراته المختلفة. في لبنان، تُضاف الأزمة الاقتصادية الاجتماعية السياسية إلى كورونا، فيحاول سينمائيون وسينمائيات مواجهة الخراب إما بصرخةٍ، أو بعملٍ، أو... بهجرةٍ. الصالات مغلقة منذ أشهرٍ مديدة، ومنصّات قليلة للغاية تحاول التعويض عن ذلك بعرض أفلامٍ، غالبيتها الساحقة مُنتجة منذ أعوامٍ.
في أوروبا وأميركا، هناك مطالبات متلاحقة لتخصيص مبالغ مالية تدعم مؤسّسات تُعنى بالصالات والعروض، وبالعاملين والعاملات فيها. كريستوفر نولان أكثر السينمائيين نشاطاً في هذا المجال. يتردّد أنّ سلطات دولٍ أوروبية تمنح تلك المؤسّسات دعماً بين حينٍ وآخر. هذا غير متوفّر في الدول العربية. سلطات عربية حاكمة غير معنية بالثقافة والفنون أصلاً، بل تحارب كلّ نتاجٍ تراه غير متوافق و"روايتها الرسمية". بعض تلك السلطات يُفضِّل المنع والقمع والسجن والنفي بحقّ "مخالفي" رأيه، بدلاً من حماية الثقافة والفنون من كلّ خرابٍ. السلطات نفسها غير مكترثةٍ بالناس وحقوقهم الأساسية أصلاً، لذا يُصبح انفضاضها عن كلّ دعمٍ ثقافي ـ فني مطلوبٍ (يُفترض به، إنْ يحصل، ألاّ يترافق مع شروطٍ تفرضها السلطات ليتوافق النتاج مع رغباتها وهواجسها وسياساتها) "عاديّاً". تَنَصّلها من مسؤولياتها الثقافية والفنية منبثقٌ من تنصّلها من كلّ واجبٍ إزاء بلدٍ واجتماعٍ وناسٍ.
دول عربية قليلة تشهد حركة ثقافية وفنية، كأنْ تُقام دورات جديدة لمهرجاناتٍ سينمائية، فيُصاب ضيوفٌ محليون وغير محليين بكورونا؛ أو كأنْ تُفتح صالات لعروض سينمائية مختلفة، من دون حدّ أدنى (على الأقلّ) من الوقاية. هذا تحدٍّ غير مأمون العواقب. فتح الصالات ضرورة، اجتماعية واقتصادية وثقافية وفنية. هذا مُسلَّمٌ به. لكنّ التزام الشروط المطلوبة والضرورية يجب أنْ يكون أساسياً وصارماً.