بداية، لا بد من الإشارة إلى أن معرفة أنّ الدور المُهمّ في إقامة المهرجانات السينمائية الدولية، يتمثّل بكونها منبراً لا غنى عنه لعرض الأفلام الجديدة والمُبدعة، التي تساهم في إدامة التنوّع الثقافي والحضاري، وبأنّها عنصر مُهمّ في موضوع التلاقح الثقافي بين البلدان، وتسعى إلى جذبها مُشاركين من مختلف أنحاء العالم.
والمهرجانات السينمائية، وفق ما تؤدّيه في دعم صناعة السينما وتوزيع الأفلام على نطاق واسع، تحرص على رعاية الإبداع والمواهب، ما يزيد من أهميّتها في الأوساط الفنية. فمنذ انتشارها في العالم، في النصف الثاني من القرن العشرين، أدّت هذه المهرجانات دوراً مُماثلاً في الحياة الثقافية للسينما: في كلّ عام، يؤثّر تقويم المهرجانات، إلى حدّ كبير، على إصدار الأفلام العالمية وتوزيعها، وتكريسها في نهاية المطاف.
الواقع أنّ المهرجانات السينمائية متأصّلة، بقوّة، في الأنظمة العالمية لإنتاج الصُوَر المتحرّكة، وتداولها واستهلاكها. تطلق المهرجانات رفيعة المستوى عناوين أفلامٍ، وتؤسّس أسماء تجارية تجذب الجماهير العالمية: إنّها بمثابة سلسلة توريد رئيسية للبرامج عالية الجودة في دور السينما، ودور العرض الفني. وعلى نحو مماثل، فالعديد من فعاليات المهرجانات الصغيرة ومتوسّطة الحجم تسدّ الفجوات العديدة التي يُخلّفها التوزيع المنتظم، لتلبيتها احتياجات جماهير ومجتمعات مُحدّدة، تتخصّص في أنواع وموضوعات معيّنة، أو تركّز على قضايا وأجندات معيّنة.
إلى جانب هذه القيم الاقتصادية والتنظيمية، تخدم المهرجانات السينمائية مصالح متنوّعة لأصحاب المصلحة، سياحةً وتنميةً إقليمية وتسويقاً للمدن، إضافة إلى أهداف السياسة والمُثل السياسية والقوّة الناعمة.
ولأنّ المهرجانات السينمائية معنيّة بزيادة الوعي بالمشاكل والتحدّيات التي تواجهها البلدان، إضافة إلى مهمّات أخرى، نرى أنّ التأجيلات والإلغاءات التي عصفت بمهرجانات سينمائية عربية، بسبب عدوان الاحتلال الإسرائيلي الجديد على قطاع غزّة والضفة الغربية، وتداعياته في المحيط الإقليمي، عمل يشوبه تسرّع وارتجال كبيران، من منطلق الفهم الحقيقي لإقامة هذه المهرجانات السينمائية، أو الأسباب التي دعت إلى قيامها.
لا يزال الالتباس في فهم مُهمّة هذه المهرجانات سائداً لدى غالبية القائمين عليها. وقبل أنْ نخوض في موضوع "تأثّر" المهرجانات السينمائية، بوصفها مهرجانات فنية، سلباً أو إيجاباً، في الأحداث الكبرى التي تتعرّض إليها الأمم، يجدر تناول دور السينما نفسها في ذلك. فالسينما، كما هو معلوم، من أكثر وسائل الاتصال تمثّلاً للأحداث التي يتعرّض إليها البلد، من حيث استلهامها واقتراح معالجات لها. والسينما تنفعل بهذا الحدث، وتبثّ الوعي المطلوب للمتلقّي. ينسحب ذلك على طبيعة المهرجانات السينمائية بأنواعها.
فهمنا للمهرجانات السينمائية الحالية، وإدارة المهرجانات السينمائية الدولية المعاصرة، يرتبط بمعرفتنا تاريخ المهرجانات، إذْ أبقت المصالح الجيوسياسية الموجة الأولى منها، أي الأوروبية، في قبضة مُحكمة حتى منتصف ستينيات القرن العشرين. استعادة بعض تاريخ المهرجانات، تكشف التأثير الفاشي على "مهرجان فينيسيا السينمائي"، أواخر ثلاثينيات القرن نفسه، وأجندة الحرب الباردة لـ"مهرجان برلين السينمائي"، والممارسات (البرمجة) ذات المنطلق السياسي في أوروبا الشرقية؛ رغم أنّ الأجندات السياسية تناقش كقوى مؤثّرة، تقود المهرجانات وتُشكِّلها. إلاّ أنّها تُظهر أيضاً أنّها تتقاطع مع الأهداف الثقافية، والمصالح الاقتصادية، والظروف التاريخية الوطنية المُحدّدة.
من هنا، فإنّ تأجيلَ مهرجانات سينمائية عربية أو إلغاءَها، كرّد وطنيّ على طبيعة الحدث الحاصل، لا يستند إلى مُبرّرات واقعية، إلاّ في حدود الفهم الخاطئ لهذا المهرجان أو ذاك، بوصفه (المهرجان) مناسبة فنية، واستعراض أزياء، وفرصة للترفيه والراحة. التباس القصد في مُهمّة المهرجانات ودورها، جعل اتّخاذ قرارات كهذه سهلاً، لأنّها تستغلّ، بالضدّ من طبيعة الحدث السياسي، في الواقع الذي يجب أنْ تكون فيه المهرجانات، كحدثٍ ثقافي من شأنه تمثيل هذا الحدث، وتعميق الوعي فيه، باستحداث قسم خاص بعرض أفلامٍ انتصرت لهذه القضية، مثلاً، أو استضافة مخرج له دور في صناعة أفلام من هذا النوع. كما يُمكن تشذيب برنامج المهرجان ممّا يتنافى وطبيعة الحدث المعنيّ.
المهرجانات السينمائية العالمية لم تتوقّف إلاّ لأسبابٍ قاهرة، عمّت البشرية كلّها، كالحرب الكونية. حتى انتشار كورونا لم يُعطّل عمل بعض المهرجانات، التي استحدثت إجراءات معيّنة لتفادي خطر الوباء، كـ"مهرجان الجونة" (وهو في حقيقة الأمر عرض للأزياء ومجال للنميمة أكثر من كونه مهرجاناً).
يُمكن تجاوز التباسٍ كهذا بإعادة النظر في برامج مهرجانات عدّة، بما ينسجم وتوافقها مع المهرجانات العالمية. وللأمانة، فإنّ عدداً من المهرجانات العربية، ولا سيما الحديثة منها، حرصت على أنْ تتضمّن برامجها إجراءات تصبّ في مصلحة صناعة السينما، ليس الوطنية فقط، بل العالمية أيضاً، كاستحداث منصّات لصناع السينما المحترفين، وتضمين برامجها على افتتاح أسواقٍ لعرض مشاريع صناع الأفلام على الشركات والمؤسّسات المعنية، بدعم المهرجان ورسالته. وأيضاً تخصيص كلّ إمكانات التسويق والدعاية عبر وسائل تواصل كثيرة.