ترتكز مهمّة التوزيع الموسيقي، وتتطور جنباً إلى جنب، مع الواقع التكنولوجي؛ فكل موزّع يمتلك البرمجيات والحواسيب والكيبوردات ومكتبات الصوت الإلكترونية، التي تمثّل عدته وعتاده لأداء عمله في الاستوديو. أما العمل التقليدي للتوزيع، كالكتابة والتدوين الورقي ومن ثمّ التنفيذ الحي؛ فيكاد يذهب طي النسيان، ويصبح من كلاسيكيات الموسيقى.
لم يكن التوزيع أساسيًا في الموسيقى العربية، بل أُدخل كتجديد على يد مغنّي القرن المنصرم، كنوع من المعاصرة. لكن، على الرغم من ذلك، لم تلتزم الموسيقى العربية بالتوزيع، بل حافظت على سمتها كمادّة أحادية اللحن، وعلى هذا قامت الموسيقى العربية في القرن العشرين، كما قام من قبلها الموروث الأقدم من موشحات وقدود وأغانٍ شعبية.
أما اليوم، فبات التوزيع الموسيقي مرحلة أساسية وضرورية بين مراحل صناعة الأغنية المعاصرة؛ إذ إنه يتمم اللحن ويمنحه اللون والهوية، سواء كان كلاسيكيًا طربيًا، أو إلكترونيًا معاصرًا، أو من الجاز أو البلوز أو الروك أو البوب أو الراب، أو بخصائص لاتينية راقصة، كالتانغو والسامبا والرومبا، أو خليطًا في ما بينها، أو نمطًا خاصًا مُجتَرحًا.
إعادة إحياء التراث في وجهها الصحي، متنفس لإرث قابع في بئر الزمن، وحاجة لمجتمع يتكئ على الماضي لهضم المستقبل، وبالتالي يتشرّبها بشغف، خاصة إذا حُمِلت إليه بتأثيرات وخواص الحاضر. أما في الوجه الآخر المرَضِي؛ فإعادة الإحياء قد تكون مؤشر احتضار إبداعي، ورَدّةِ فعل لا واعية على أزمة هوية.
كثيرًا ما نشاهد أو نسمع اليوم تجارب موسيقيّة، تتناول مادة موروثة، تختلف فيها طرق تقديم التراث، وتتفاوت ما بين البساطة والتعقيد في مكان، وبين البلورة والتخريب في مكان آخر. لكن ما المساحة المشروعة والمتاحة لنا، والتي يمكننا ضمنها التحرك بحريّة في تناولنا للتراث، أو في إعادة توزيعه وأدائه؟ فالمادة المُتناولة تختلف ضوابطها، سواء كانت موشحاً أو دوراً أو قداً، أو كانت من كلاسيكيات القرن العشرين و"الزمن الجميل"، أو من الموروث الشعبي المتناقل الذي تحمله المشافهات والطقسيات.
فموشّح "منيتي عزّ اصطباري"، مثلًا، نسمعه من تسجيل بصوت صباح فخري سنة 1962، بشكله الكلاسيكي وبمرافقة فرقة موسيقية تقليدية، ومن تسجيل آخر حديث بصوت ريما خشيش بمرافقة آلتي التيمباني والسيمبال، ونستمع لموشح "لما بدا يتثنى" بشكله التقليدي أو بالتوزيع الأوكسترالي مع الكورال من أوركسترا باريس الفلهارمونية مكتمل القالب والقوام في كلا التسجيلين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأدوار والقصائد، فهي معايير تقيس براعة المغني، ولا بد لمن يود غناءها أن يكون مدركًا خصوصيتها من حيث الحساسية والصعوبة، الأمر الذي أعطاها حصانة نسبية ضد سوء الأداء.
في الشق الثاني من المادة التراثية العربية، يكمن نتاج القرن العشرين، الذي جسّد نهضة الموسيقى العربية بعد قرون من الركود الحضاري، حيث برزت فيه قامات أسست لمدارس في التلحين والغناء، فكل من سيد درويش والقصبجي وزكريا أحمد والسنباطي ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وبليغ حمدي والرّحابنة، كانوا مَددًا موسيقيًا هائلًا ومتنوعًا.
وبكل أسف، كان مصير هذه المدارس الذبول والأفول تدريجيًا بعد موت مؤسسيها، بسبب غياب الوريث الذي يقع على عاتقه حمل هذه النّهُج لمن بعده. شحّ بموت هؤلاء هذا التدفق، حتى باتت الساحة الفنيّة تفتقر لأمثالهم كمنتجين لمادة فنية متأصلة في الموسيقى العربية، وتمتلك آلية الاستمرار والتجديد أيضًا، لكن بقيت تتردد أصداء حضورهم عبر أصوات تعيد أعمالهم التي كانت، وما زالت، منبرًا لتقديم فنانين جدد، وبابًا لنيل قبول الجمهور وثقته.
تبعث إعادة أعمال من القرن العشرين، حالة نوستاليجية عند شريحة كبيرة من الجمهور العربي، لذلك نرى فنانين كرّسوا كل طاقاتهم الفنية لتقمص شخصية أحد فناني القرن الماضي، مثل صفوان بهلوان، مثلًا، الذي يُحتفى فيه كأنه الصوت الحي لمحمد عبد الوهاب، بالرغم من أن له أعمالًا خاصة كملحن ومؤلف موسيقي، وأيضًا ربا الجمال التي اختُزلت تجربتها الفنية بإعادة أداء أغاني أم كلثوم، حتى أن بعض الأعمال صارت مفضّلة بصوتها أكثر من صوت كوكب الشرق، كما الكثيرين ممن يستمعون لأغاني أم كلثوم بصوت فنانيهم المفضلين، كجورج وسوف أو فضل شاكر أو آمال ماهر، الذين كانوا بوابةً لبعض من الجيل الحديث على أغاني الجيل السابق.
يمكننا تسمية هذه الخطوة إعادة إحياء بمكان ما، لكنها لم تكن مغرية بالنسبة لآخرين من الجيل الأحدث، الذين لم يستطيعوا تقبّل أعمال كهذه من دون إعادة تدوير؛ فأغنية "قلبي ومفتاحه" لفريد الأطرش من فيلم "رسالة من امرأة مجهولة" (1962) كانت حينها تحمل صبغة تجديدية أوروبية، لكن ما كان فريد الأطرش يجتهد لتحقيقه أصبحنا اليوم نسمعه بلا استهجان، لذا فإن الأغنية ذاتها مستحبة للبعض بصوت حنين أبو شقرة، بتوزيعها اللاتيني الحديث.
يكمن الموقف الإشكالي الحقيقي في محاولات تناول التراث الشعبي والآراء حول شرعيّتها، فالتراث الشعبي مادة فنية بكر، أو بمعنى آخر، هي أوّلية وليدة طقوس اجتماعية معجونة بأحداث تاريخية وسياسية، وتندرج تحت ما يسمى التراث اللامادي للشعوب. هذا بذاته سيف ذو حدّين؛ فهو إرث خاص وقيّم، وأيضًا عام ويحق لأي شخص استخدامه. كما أن التقوقع على التراث وإبعاده عن التجريب والاستخدام، سيؤدي إلى نفيه من الذاكرة الاجتماعية الحاضرة.
لكن، في ذات الوقت، هذا الموروث في غالبيته غير محفوظ أو مدوّن، وأي تحريف فيه سيطاول ماهيته الأولى. وللأسف، نسمع اليوم تجارب كثيرة كهذه، وقد حققت جماهيرية واسعة، وفيها كسر وتعديلات بالمادة الأصلية دونما اكتراث، مثل باستة "يالزارع البزرنكوش" العراقية التي كانت تُؤدّى في ختام مقام النوى أو النهاوند، كما نسمعها من المغني يوسف عمر في التراث المقامي العراقي، ومن ثم بصوت إلهام المدفعي مع تعديل لا يغتفر في إيقاعها.
الإشكال أن تجربة المدفعي صارت الأكثر استماعًا اليوم، حتى أن كثيرين لا يعرفون بأن الأغنية تراثيّة أصلًا. تكرر هذا مع لينا شماميان حين أطلقت أحد أشهر الألبومات في سورية خلال العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، واضعة فيه مجموعة من الأغاني التراثية الشاميّة بإعداد جازي القوام (من جاز). أصبح هذا الألبوم اليوم مرجعًا للجيل الحديث إذا أراد أن يستمع لأغانٍ مثل "هالأسمر اللون"، أو "يا مايلة عالغصون"، أو "يا محلى الفسحة". وما ينشره حمزة نمرة في الريميكسات الحديثة، كأغنية "كيفوكيم" التراثية الكردية، مغيرًا فيها الصيغة الكلية للأغنية تقريبًا.
التراث بوابة إلى قلب الشعوب، ومن خلالها حقق هؤلاء الفنانون جماهيرية واسعة، وأصبحوا روادًا في تقديم تراث مجتمعاتهم للعالم، لكنهم تناولوه كما لو كانوا مستشرقين، ونظروا إليه من خلال مرآة أوروبية، وهذا هو الخذلان بعينه، أن نتناول مخزوننا الحضاري كما يتناوله الآخرون.
يعيدنا ذلك إلى مؤتمر الموسيقى العربية عام 1932 في القاهرة، الذي قام عليه الغرب ووثقه الأتراك والفرنسيون، فلا ندري إن بقي شيء من العربية سوى العنوان فقط. لقد كنا وما زلنا نفتقر إلى الإيمان بالذات واحترام تراثنا الفني والثقافي بشكل عملي، ليس بشكل خطابي منمّق معد لكي يُنسى بعد ساعات. تستقبل دور الأوبرا العالمية مؤلفينا والعاملين جديًا على قضايا الموسيقى العربية، بينما تعج مسارحنا بالمستسهلين المهللين لأصغر النتائج، تاركين إرثنا مركونًا مهملًا نتبادل التقييمات حوله.