"مطلوب: مجموعة بدناء ظرفاء، من بين رجالٍ متوسّطي العمر، ليظهروا في مقطع فيديو أغنية غير اعتيادي، برفقة المُغنية أوليفيا نيوتن - جون". هكذا قُرئ النداء الذي نشرته صحيفة Hollywood Reporter، في عام 1982، لأجل استقدام ممثلين يُشاركون في تصوير الفيديو كليب الخاص بـ"جسديّ" (Physical)، التي تعد واحدة من أيقونات حقبة الثمانينيات الموسيقية، لفئة أغنية البوب الجماهيرية.
بشعر أشقر ذي تسريحة صبيانية قصيرة، تدلّ على السطوة والقوة، وضمادة رياضية بيضاء قطنية عُصِبت حول الرأس، تشير إلى الانضباط والعزم، ورداء خاص برياضة الآيروبيك، مطاطي أزرق، بلون عينيها، يلتصق بجسمها الرفيع والرشيق، كانت أوليفيا نيوتن - جون، التي رحلت في الثامن من هذا الشهر الحالي عن 73 عاماً، قد جسّدت من خلال تلك الأغنية المصورة، رمز الإثارة الجنسية، والأنوثة المُثلى، كما حلمت بها، آنذاك، الفتيات، قبل الفتيان، في المجتمعات الغربية.
لم يأت الإصدار من دون تردد. في البداية، عُرضت الأغنية على صوت آخر ارتبط بزمن الثمانينيات، وإن بقوة أكبر وجودة أفضل من نيوتن - جون، ألا وهو صوت المغنية الأميركية تينا تيرنر. رفضت تيرنر، لما اعتبرته إيحاءات جنسية فاضحة تضمّنتها الأغنية. بما أنه كان لكلتي النجمتين ذات وكيل الأعمال، لذا عُرضت الأغنية على أوليفيا، فقبلت. ثم سرعان ما تراجعت، عقب تسجيلها وإنتاجها، بعد أن انتابها الذعر إزاء ازدواجية الدلالة التي حملتها المعاني. إلا أن تراجعها قد أتى متأخراً. فالأغنية أخذ يحملها أثير الراديو سريعاً، لتتربع فوق بقية أغاني العام.
لكونها لم تكن مغنية فقط، وإنما أيضاً ممثلة ونجمة استعراضية، إذ اشتُهِرت في سابق عهدها بثنائي جمعها بالنجم جون ترافولتا في فيلم الموسيقى الرومانسي Grease سنة 1978، جعلها هذا تأتي بفكرة خلّاقة. فبعد أن مُنع بثّ الأغنية في ولاية يوتاه بالولايات المتحدة الأميركية، ودولة جنوب أفريقيا، طلبت أوليفيا من المخرج برايان غرانت أن يصوّر الفيديو في صالة للألعاب الرياضية. بذلك، تميع الدلالة ما بين تعبير Physical (جسديّ) المرتبط بممارسة الجنس مسحوباً منه العاطفة، و"بدني" أي ممارسة التمارين الرياضية.
بذلك أيضاً، صارت أغنية أوليفيا نيوتن - جون المعنونة بـ"جسديّ"، أو "بدنيّ"، حمّالة وجوه عدّة. كلّ من تلك الوجوه، مثّل جانباً من جوانب الحياة العصرية في الغرب خلال حقبة الثمانينيات. أول تلك الوجوه، ما دلّت عليه الكلمات، من احتضان لمظاهر التحرر الجنسي وسلوكياته، وذلك ضمن إطار تحصيل اللذة المحضة، وبالنظر إلى الإفراط على أنه قيمة بحد ذاته، كما تحض عليه مفاهيم اقتصاد السوق ومظاهر الاستهلاك في الرأسمالية الحديثة؛ اللذة لأجل اللذة، أو المزيد منها. والنظر إلى العلاقة الجسدية من زاوية مادية خالصة، كما لو كانت تمارين رياضية.
الوجه الآخر هو تقديس الجسد وصيانته من خلال الحفاظ على القوام الرشيق والتزام الحمية الغذائية وتعزيز اللياقة البدنية. فالفيديو لا يتوانى، في البداية، عن تعيير البدانة والسخرية من البدناء. بالمقابل، تستعرض الأجسام المفتولة، كما لو أنها سِلعٌ مادية، تُنتجها آلات رفع الأثقال وشدّ الأوزان، والدراجات الهوائية الثابتة؛ إذ ترى رجالاً مفتولي العضلات، أزواجاً، وكأنهم من فرط النرجسية والتمحور حول الذات قد عانقوا ذكورتهم، يخرجون من صالة اللياقة بصورة استعراضية، كمنتجات مُنجزة تخرج حديثاً من خط إنتاج بأحد المصانع. إلى أن تحين نهاية الفيديو، فترى أوليفيا، برداء لاعبة تنس، وقد اختارت لها شريكاً من بين أحد البدناء، في دلالة نقدية على زيف الثقافة الاجتماعية التي تُقدّس الجسد الكامل، ولا تعير جوهر الإنسان القيمة والاعتبار.
ثمة أيضاً مظهر القيادة والريادة الذي تُقدَّم من خلاله امرأة الثمانينيات، في إشارة إلى سيرورة تمكينها في المجتمعات الغربية الحديثة، الذي ترسّخ خلال تلك الفترة، خصوصاً مع تولّي مارغريت ثاتشر (1925 - 2013) رئاسة الوزراء في بريطانيا على طول العقد. تظهر أوليفيا نيوتن - جون من خلال الفيديو المصور، تُدرّب الرجال وتدير الصالة الرياضية. وتبدو في بعض المقاطع كما لو أنها تصارع وتمتطي وتُطيح أرضاً. لتلك المشاهد من جهة، إيحاءات غرامية ساخرة، إلا أنها من جهة أخرى، تجعل المرأة بموضع الهيمنة والسيطرة، إضافة إلى أن أوليفيا، هي المرأة الوحيدة في الفيديو، ومحور جميع اللوحات الراقصة.
ثم هنالك الوجه الموسيقي الخالص للثمانينيات في أغنية أوليفيا، حيث الخفّة والأناقة وعلوّ طبقة الأصوات بشكل عام. الطبل يُقرع، ترافقه الصنوج، على إيقاع ثنائي، بأسلوب الروك آند رول، وبصورة آلية منتظمة، يكاد أن يُسمع صوتاً رقمياً بُرمج به الحاسوب. أنساق الغيتار الكهربائي المختلفة تُسمع هي الأخرى رقيقة ورفيعة، تغلب عليها الكياسة والانضباط. تضاف إليها ألوان آلة الساكسوفون النفخية المميزة للحقبة، والأورغ المُستخرج من أصوات رُكّبت وعولجت كهربائياً، كانت في وقتها، صدى لأصوات مستقبلية. فيما يُسمع الصوت الغنائي غضّاً غير متكلّف، أو لا يُجيد التكلّف، تتركز فيه سمة الأنوثة.
حين مرّ جون ترافولتا بمنزل أوليفيا، ليُقنعها بأن تقبل دور ساندي في فيلم Grease، كانت لا تزال بعد في الثامنة والعشرين من عمرها. لم تعِ وقتها أن ذلك الفيلم سيُطلقها لتحلّق في سماء الشهرة عالياً جداً. إلا أن النجم الأسطوري جين كيللي (1912 - 1996)، الممثل والمغني والراقص والمخرج الأميركي، هو من أسدى لها النصيحة التي ستقود حياتها لاحقاً في مراحلها العصيبة، حين قال لها في أحد الأيام، إن عليها أن تجد للحياة هدفاً وأن تبحث لها عن معنى.
قُدّر لـ"ساندي" وصاحبة أغنية "فيزيكال"، عند بلوغها سنّ الرابعة والأربعين، أن تصاب بسرطان الثدي، فتبدأ رحلة طويلة ومريرة بصحبة المرض العضال. لقد نجحت من خلال مكابدتها لأوجاعها، في أن تستخلص من المرض هدفاً في سبيل العيش ومعنى للحياة، عملاً بنصيحة كيللي، عوضاً عن أن يكون المرض نذيراً دائماً بالموت ومآلاً إلى اعتناق التشاؤم وتبنّي النظرة العدمية.
هكذا، قادت جهوداً متصلة، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، من خلال إنشاء مركزٍ لمرضى سرطان الثدي، في موطنها الأصلي بمدينة ميلبورن في أستراليا، يقدم الدعم الطبي والنفسي والاجتماعي، فتتحول أوليفيا نيوتن - جون من رمز إغراء جنسي، إلى أمثولة في العمل الخيري والمجتمعي.