"أن تحيا": إعادة بحثٍ سينمائي عن معنى الحياة

05 ابريل 2023
رودني ويليامز (بل ناي): اكتشافٌ متأخّر لضياع الحياة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

في كلّ مرّة يُعلَن عن إعادة صنع فيلمٍ من تاريخ السينما، يتنامى الجدل بين السينفيليين ومحبّي العمل الأصلي، الذين لا يتردّدون في التساؤل حول جدوى العملية، ونعت الاستوديوهات المُنتجة لها بالكسل، والجشع الرّامي إلى ضمان مداخيل مرتفعة، من دون عناء خلق جديدٍ، والمجازفة بطرحه. تزيد حدّة الانتقاد عندما يتعلّق الأمر بـ"ريمايك" تُحفة مطلقة، نظراً إلى أنّ أحد تعريفات هذه الأخيرة يتمثّل بـ"العمل الذي لا يُمكن إضافة أي شيء إليه، أو نقصانه منه، من دون أن يتأثّر بنيان الكلّ".

إذاً، ما الفائدة من إعادة صنع تُحف السينما؟

سؤالٌ كهذا ربما تبادر إلى ذهن المخرج أوليفر هِرمانِس (جنوب أفريقيا)، عندما اختار تحقيق سيناريو لكازوو إيشيغورو، مقتبساً إياه عن رائعة السينما اليابانية "أنْ تحيا" (1952) لأكيرا كوروساوا (سيناريو هذا الأخير، بالاشتراك مع رفيقي دربه في الكتابة شينوبو هاشيموتو وهيديو أوغوني). الـ"ريمايك" يدين بالكثير لشغف الكاتب البريطاني ذي الأصل الياباني، إيشيغورو ("نوبل الآداب"، 2017)، بالسينما، الذي صرّح أنّ تحفة كوروساوا لعبت دوراً حاسماً في تكوين حساسيته في الكتابة.

المشروع نشأ في عشاءٍ جمعه بالمنتج ستيفن وولي، وحضره صدفة الممثّل بِل ناي، الذي يؤدّي دور رودني ويليامز، أرملٌ في نهاية خمسينياته، ورئيس مصلحة الأشغال العمومية في مجلس مقاطعة لندن (لندن كاونتي)، الذي أمضى 30 عاماً في منصبٍ إداري قارّ، يضطلع فيه بمنتهى الالتزام، حضوراً وتركيزاً في الظاهر، لكنْ ببيروقراطية مفرطة في العمق.

تحضر سيدات لتقديم عريضة شكوى، يطالبن فيها بتحويل حفرة غائرة، نجمت عن سقوط قنبلة وسط حيّهن إبّان الحرب العالمية الثانية، إلى روضةٍ للأطفال، بدل أنْ تبقى مستنقعاً للمياه الآسنة، وتجمّعاً للبعوض المُسبّب للأمراض. يأمر الرئيسُ الموظّفَ بيتر ويكلينغ (أليكس شارب)، الوافد حديثاً إلى المصلحة، بمرافقتهنّ إلى مصلحة أخرى، يعتقد أنّها الأكثر تخصّصاً في موضوع العريضة، فتتقاذفهنّ المصالح بين واحدة وأخرى، تهرّباً من مسؤولية الإشراف على المشروع، قبل أن تنصحهنّ المصلحة الأخيرة بالتوجّه إلى مصلحة الأشغال العامة مجدّداً، فيتسلم ويليامز منهنّ الملفّ، ويُلقيه في رفّ الطلبات المُهمَلة.

يركّز هِرمانِس، في البداية، على التقاط الأجواء الكئيبة للندن، غداة الحرب، بتأطير أدخنة القطارات البخارية، التي تنقل الموظّفين الملفوفين بأزيائهم الرسمية الداكنة، من الضواحي إلى المكاتب الضيّقة، فيضاعف التزامهم التراتبية وجدّيتهم، المُبالَغ بها، من انطباع الرتابة والجمود القاتل، المُخيّمَين على حياة ويليامز. يُكتَشف هذا كلّه بعينيّ ويكلينغ المندهشتين، ما يُشكلّ اختيار تبئير سردي، يمثّل أحد الاختلافات الجوهرية مع السيناريو الأصلي. يتلقّى ويليامز خبر إصابته بسرطان المعدة، في مراحله المتأخّرة، فتنقلب نظرته إلى الوجود كلّياً، ويتغيّب على غير عادته عن العمل، من دون أنْ يخبر ابنه الوحيد بمرضه.

احتفظ إيشيغورو بالهيكلة، التي كفلت لسيناريو "أنْ تحيا" مكانةً في مصاف أفضل ما كُتب للشاشة الفضية، بفضل ارتكازه على 3 أقسامٍ، تتبدّل إثر كلّ منها نظرة ويليامز إلى الحياة، منذ الإحساس باقتراب الموت، الذي يفتح عينيه بشكل مفارق على حقيقة أنّه كان ميّتاً ـ حيّاً، أو "زومبي"، كما تسمّيه الموظّفة الشابة مارغريت هاريس (آيمي لو وود)، حين اكتفى بتمضية حياته في عملٍ رتيب، من دون شغفٍ أو طموحٍ يحرّكانه، أفسدا اهتمامه المطلق به (العمل)، حتّى علاقته مع ابنه الوحيد.

 

 

في مرحلةٍ ثانية، ينخرط ويليامز في حياة الليل الماجن في لندن، بكلّ جوارحه، رفقة كاتب مسرحي (نوعٌ من مفستوفيليس) تعرّف عليه صدفة. لكنّ حقيقة الجسد تعيده إلى الواقع، فيقتنع أنّ المُتع الزائلة لا تكفي لملء الحاجة إلى الحياة. لعلّ إخراج الصورة، المنحاز إلى الألوان الدافئة في هذا القسم، يحيل إلى جمالية الحلم وانفلات الأشياء، ما يُعزّز شعوراً ميلانخولياً ينبعث من السعي المتأخّر وغير المجدي إلى استدراك الزمن الضائع، بمراكمة السهر والإفراط في الشرب، عبّرت عنه أغنية "شجرة السِّمَّن" (من التراث الاسكتلندي)، التي يُغنّيها ويليامز في غمرة الأحاسيس المتنافرة.

ثم مرحلة لقائه خارج العمل مع هاريس، لترافقه في جولات بين مطاعم وملاه، فيتعلّق بشخصيتها المرحة والمقبلة على الحياة، محاولاً استشفاف سرّها، ويتوصّل أخيراً إلى ما يمنح معنى لحياته. تطوّرٌ أورد السيناريو الأصلي نتائجه بعد اختزال زمني خلاق، يضعنا في مشهد ختامي طويل ومُغلق الفضاء، وفق طقوس استقبال الدفن في الثقافة اليابانية، تتخلّله لقطات فلاش ـ باك، تُظهر اختلاف آراء الحاضرين (ما يُذكّر باختلاف تفاصيل القصة، بتبدّل الراوي الكامن في تصوّر "راشومون") حول دواعي تبدّل طبائع رئيس المصلحة وتصرّفاته.

لكن إيشيغورو جنح إلى تكثيفه في مشهد مُقتضب، أضعف شيئاً من الحمولة الدلالية للفيلم، مُفوّتاً الوقوف على فكرتين جوهريتين: يكفي الإنسان أنْ يكون أصلياً، ولو لأشهر عدّة، قبل أن يتوفّى، ليغدو كائناً مُعقّداً يصعب اختزاله في رؤية أحادية، أو الإحاطة باختياراته في تفسير مطلق؛ ونزعة متأصّلة في البيروقراطيين، الذين يسعون بموجبها إلى التّرامي على إنجازات الآخرين، ونسبها إلى أنفسهم.

يظلّ "أن تحيا" (الـ"ريمايك") عملاً يستحقّ المُشاهدة، لما فيه من أجواء نجحت في نقل المتفرّج إلى لندن خمسينيات القرن الماضي، وبفضل الأداء المرهف للكبير بيل ناي، الذي توفّق في التقاط شرط إنساني عميق ومُركّب. يكفي أنّ عمل أوليفر هيرمانوس هذا سيشكّل فرصةً أخرى لإعادة استكشاف تحفة كوروساوا، واختبار معجزة السينما التي تجعل أحد أعظم الأفلام حول حبّ الحياة، وكيف أنّ أوان ترك بصمة إيجابية على الوجود لا يفوت أبداً، هو أيضاً قصّة رجل يعلم أنّه يمضي أشهره الأخيرة في الوجود.

المساهمون