لم تخل الكتابات التي تبحث في أسباب هزيمة يونيو/حزيران عام 1967، من توجيه السهام إلى أم كلثوم، واعتبارها من أهم أسباب "النكسة"، كونها خدرت الجماهير العربية بصوتها، وشغلت الناس عن قضاياهم المصيرية المتمثلة في التحرر الوطني، والتخلص من الاستبداد السياسي، والانعتاق من التخلف عن ركب الحضارة.
وهذا النقد على ضعفه وتهافته، يحمل اعترافا ضمنيا بمكانة أم كلثوم، وعظمة صوتها، وقوة تأثيرها في الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج. لكن مسيرة سيدة الغناء واجهت نقدا آخر يشكك في استحقاقها هذه المكانة، ويُرجع ما وصلت إليه من شهرة ونفوذ وتأثير إلى رعاية الدولة عقب ثورة يوليو 1952، والمساندة الكبيرة والمستمرة من الرئيس جمال عبد الناصر شخصيا، وإلا، فإن أصواتا نسائية أخرى كانت أولى بزعامة الغناء العربي.
ألف ليلة وليلة
وجد هذا النقد عوامل ساعدت على ترسيخه وانتشاره، لا سيما بين الشباب والأجيال الجديدة، التي لا تكاد تعرف إلا أم كلثوم "المتلفزة"، ومن خلال الوصلات التي تبثها الفضائيات، وكلها سُجلت في حقبة الستينيات، والسنوات الأولى لعقد السبعينيات، بعد أن تراجع البريق في صوت السيدة الكبيرة، وتورطت في غناء كلمات وألحان ربما لم تكن تليق بالمستوى الذي اعتادته الجماهير منها.
حين يستمع شاب عشريني إلى أغنيات من نوع "ليلة حب" أو "ألف ليلة وليلة" أو "إنت الحب"؛ فإنه يتساءل: لم تستحق أم كلثوم هذه المكانة إذا كان هذا هو صوتها وأداؤها؟ يمكننا أن نعتبرها مطربة كبيرة كغيرها من المطربات الكبيرات، لا أن تكون سيدة الغناء المتربعة على عرش الطرب. وربما أعجب بعضهم باللحن والموسيقى، فتمنى لو غنته نجاة أو وردة أو شادية.
ومما ساعد على انتشار فكرة استمداد كوكب الشرق مكانتها من الرعاية الناصرية، كثرة الحديث -بحسن نية أو بسوئها- عن شخصيتها، وذكائها، وحسن إدارتها لموهبتها.. فالأغلبية الساحقة من الكتاب والمتحدثين، حين يتناولون مكانة السيدة وقيمتها الفنية، وعظمة صوتها ونفاسته، يكون حديثهم حديث إيجاز واختصار، وفي الوقت عينه يطنبون ويوسعون مساحة الكلام عن طباعها الشخصية، وسرعة بديهتها، وخفة ظلها، ونكاتها التي يجب أن تُجمع في كتاب ضخم. مع تكرار عبارات من نوع "أم كلثوم ليست صوتا جميلا فقط"، أو "شخصيتها أهم من موهبتها"، وغير ذلك من التعبيرات التي تظهر المديح وتستبطن الحط من قيمة صوتها، أو على الأقل تضعه مساويا لغيره من عناصر نجاحها وتفوقها.
نقد مؤدلج
وقد تولى بعض أصحاب الأقلام من غلاة اليسار العربي، ترويج عبارات التنقيص من قيمة صوت أم كلثوم، بل وتحميلها مسؤولية تخدير الجماهير وتغييب الوعي، وتصويرها باعتبارها "أفيون الشعوب"، تقدم فنا يستغرق في كلمات الحب والغرام واللوعة والهيام، وتنشر طربا لا يختلف أثره عن أثر مخدر "الحشيش"، بما لا يتناسب مع الحالة "الثورية" التي سادت في الستينيات.
وفي كتابه "مسافر على الرصيف"، وصف الكاتب المصري الراحل محمود السعدني، نقاشا يساريا من هذا النوع المتطرف، كما تضمن مسلسل "ليالي الحلمية" للسيناريست الراحل أسامة أنور عكاشة حوارا بين بعض شباب اليسار، ممن يعتبر فن أم كلثوم فنا رجعيا لا يواكب زمانه. وفي أواخر التسعينيات، كتب عادل حمودة منتقدا أم كلثوم، وقال إنه لا يملك الوقت ليبقى في مكانه محنطا أثناء غنائها.
ومن الغريب أن موقف اليسار العربي المتطرف من غناء أم كلثوم التقى وتوافق مع مواقف كثير من الإسلاميين، فالكاتب الكويتي عبد الله النفيسي يرى أن أم كلثوم حولت العالم العربي إلى "غرزة". ومن قبله، اعتبرها عبد الله عزام من أسباب "النكسة" لأن الإذاعة كانت تخاطب الجنود المتجهين إلى الجبهة قائلة: أم كلثوم معكم في المعركة.
وحتى أثناء حملتها الشهيرة للمجهود الحربي، لم تسلم أم كلثوم من انتقاد الإسلاميين، فهجاها الأردني يوسف العظم بنظم جاء فيه: "كوكب الشرق لا تذوبي غراما ودلالاً وحُرقة وهُياما.. لا، ولا تنفثي الضياع قصيدا عبقريا أو ترسلي الأنغاما".
لا يمكن لأحد أن يجادل في تمتع أم كلثوم بحظوة ومكانة كبيرة عند الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لكنها نالت تلك المكانة بعظمة صوتها، وبقوة موهبتها، وبتاريخها الفني العريق، والضارب في أعماق الزمن ثلاثة عقود قبل قيام ثورة يوليو، إذا احتسبنا هذا التاريخ منذ مجيء أم كلثوم إلى القاهرة، وأكثر من أربعة عقود باحتساب كدها الفني في القرى والنجوع وأرياف الدلتا.
إذن، فالمكانة لدى دولة يوليو كانت إقرارا من هذه الدولة بقيمة أم كلثوم وعظمتها، وربما احتياجا لها لتكون قوة فنية ضاربة لتأييد العهد الجديد. وقلب هذه الحقيقة في أعين الأجيال الجديدة بجعل السطوة الحكومية والرعاية الناصرية سبباً لتربع السيدة على القمة، ليس إلا تزويرا فنيا، يتجاهل عن عمد أن سن أم كلثوم كانت قد تجاوزت خمسين عاما حين قامت ثورة يوليو عام 1952، وأنها استوت على عرش الطرب بلا منازع قبل هذا التاريخ بنحو ربع قرن.
سور بلا باب
لم تكن فكرة اكتساب أم كلثوم مكانتها من المساندة الناصرية إلا مجرد إشاعة، راجت بأقلام يسارية مغالية، فإذا تركنا الإشاعات إلى الحقائق، وجدنا أن إعلام يوليو بصحفه وإذاعاته وتلفزته، لم يكن حفيا بالماضي الفني العريق لكوكب الغناء.. أهملت تماما تسجيلاتها على الأسطونات، ثم أهملت بالتدريج أغنياتها المحفلية في الثلاثينيات والأربعينيات، وضرب الإعلام الناصري سورا حديديا من التجاهل حول مكانة أم كلثوم، وقيمتها في العهد الملكي، الذي منحها وسام "صاحبة العصمة".
ومرت السنوات، ورحل كثير من الإعلاميين القدامى، وتلقت الأجيال الجديدة فن أم كلثوم عبر التلفزيون، أي أنهم تلقوا صوت السيدة في العقد السابع من عمرها. وأصبحت قصيدة "كلب الست" لأحمد فؤاد نجم مصدرا رائجا في التأريخ للسيرة الكلثومية: نفوذ بلغ حد ألا يستطيع أحد أن ينتصف من كلب السيدة حين يعض "مواطن غلبان". إذن، فقد نالت مكانتها بهذا النفوذ الذي منحته لها الدولة الناصرية، نتيجة لا علاقة لها بالمقدمة، إلا في أذهان المؤدلجين والمحجوبين عن حقائق التاريخ، أو هي كذلك عند قوم يزايدون على قصيدة نجم، فيتجاهلون مقدمتها المقرة بمكانة السيدة وموهبتها الاستثنائية: "صيتها أكتر من الأدان.. يسمعوه المسلمين.. والتتر والتركمان.. والهنود والمنبوذين".
بالطبع لا أحد فوق النقد، ولو كانت أم كلثوم، لكن على الناقد أن يتعرف جيدا إلى حقائق التاريخ لا الإشاعات، وأن يدرس المسيرة الفنية الطويلة للست، فليس من الصنيع العلمي ولا الموضوعي أن نختصر رحلة ستة عقود في عقد واحد، أو أن نتغافل عن أن أم كلثوم عام 1952، كانت قد أنجزت الغالبية العظمى من مفاخرها الفنية الخالدة: كانت قد غنت كل ما لحنه لها محمد القصبجي، وكل ما لحنه لها زكريا أحمد عدا "هو صحيح الهوى غلاب"، ومن قبل ذلك، كانت قد غنت قصائد الشيخ أبو العلا محمد، وأعمال أحمد صبري النجريدي، وأدوار داود حسني.. وكانت قد غنت معظم ألحان رياض السنباطي، وفي مقدمتها: سلوا كؤوس الطلا، وأتعجل العمر، وفاكر لما كنت جنبي، وهلت ليالي القمر، والنيل، ونهج البردة، وولد الهدى، وإلى عرفات الله، ورباعيات الخيام، وغلبت أصالح، وسهران لوحدي، وجددت حبك، وياللي كان يشجيك أنيني..
هذه كلها أعمال تضمنت أرقى ما وصلت إليه النصوص العاطفية والدينية والوطنية المغناة في القرن العشرين.
كما لا بد أن يتساءل الباحث الجاد عن "التخدير" في غنائها لقصيدة سلوا قلبي، وما كانت تفعله من شحذ وشحن جماهيري: وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا، أو يتساءل عن "الحشيش والغرزة" في غنائها لقصيدة حافظ إبراهيم "مصر تتحدث عن نفسها": "أنا إن قدر الإله مماتي.. لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي.. أمن العدل أنهم يردون الماء صفوا.. وأن يكدّر وردي.. أمن الحق أنهم يطلقون الأسد منهم.. وأن تقيد أسدي".
كانت هذه الأعمال أعمدة البناء الضخم، الذي شيدته أم كلثوم بصوتها، ولم تكن هذه الأعمال، رغم رقي كلماتها وسمو ألحانها، لتجد هذا النجاح والرواج والتفاعل الجماهيري، لولا أن حملها صوت أم كلثوم المعجز المعبر النافذ إلى القلوب.
صفحات مطوية
وفي مواجهة إنكار حقائق التاريخ المعلومة من الفن بالضرورة، يصبح من المفيد أن نستعيد بعض مشاهد استقبالها في رحلتها الأولى إلى بلاد الشام، والتي رصدتها مجلة "الصباح" القاهرية إذ كتبت: "أبحرت أم كلثوم على متن الباخرة الأميركية "أكس كمبيون".. وكان في وداعها جمع كبير من رجال الأدب والفن.. استقبل العاملون في الباخرة الضيفة الكبيرة بحفاوة بالغة، ورفعوا صورها في غرف القبطان والعاملين، تابعت أم كلثوم الرحلة، ووصلت في نهاية الشهر إلى بيروت حيث استقبلتها زوارق رفعت عليها الأعلام المصرية وسط باقات من الأزهار والرياحين، وكان من بينها زورق بخاري يحمل فرقة موسيقية تصدح بالسلام الملكي المصري. نزلت أم كلثوم من الباخرة كعروس البحر، واستقبلها المئات.. ثم توجهت إلى النادي الموسيقي، واصطف الناس على أرصفة الشوارع لتحيّتها". كان ذلك عام 1931، في عهد الملك فؤاد.
بصوتها، وبصوتها وحده، بنت أم كلثوم مجدها، ونالت مكانتها.. ولنتذكر أنها حظيت بمديح كبار شعراء العالم العربي، وفي مقدمتهم: أحمد شوقي، خليل مطران، عباس العقاد، معروف الرصافي، جميل صدقي الزهاوي، محمد بهجت الأثري، الملا معروف الكرخي، عزيز أباظة، زكي مبارك، إبراهيم ناجي، علي أحمد باكثير، والشاعر التركي إبراهيم صبري.. وكل هؤلاء دبجوا القصائد في مدح صوتها وتبجيل غنائها قبل أن يسمع أحد باسم جمال عبد الناصر.