مع اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، عاد البطيخ إلى الميادين العالمية، كرمز لدعم القضية الفلسطينية، محمولاً باليد أو في ملصقات، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كتعبيرات للتحايل على خوارزميّاتها التي تستهدف منشورات دعم الفلسطينيين. بدأت حكاية البطيخ كرمز فلسطيني، بعد احتلال إسرائيل لما تبقى من الأراضي الفلسطينية وأراضٍ عربية، في عام 1967، إذ فرضت جملة من القرارات العسكرية، من بينها حظر رفع العلم الفلسطيني بشكل علني. استمر ذلك حتى توقيع اتفاقية أوسلو ما بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1993، ثم قيام السلطة الفلسطينية في العام التالي.
للأمر جذور ذات طابع فني، يوضحها الفنان التشكيلي الفلسطيني، سليمان منصور، في حديث إلى "العربي الجديد": "في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أقمت معرضاً شخصياً في "غاليري 79" في مدينة رام الله، فاقتحمت قوات الاحتلال المعرض، وصادرت لوحاته وأغلقته. بعدها بأشهر، نظمنا معرضاً جماعيّاً، فاستدعتنا سلطات الاحتلال. كنت مع نبيل عناني وعصام بدر، وأملوا علينا أوامر حول الممنوعات الإسرائيلية المتعلقة باللوحات والأعمال الفنية الفلسطينية، ومن بينها حظر رسم ألوان العلم الفلسطيني (الأبيض، والأسود، والأحمر، والأخضر). وأكدوا لعصام بدر، الذي عقّب على قراراتهم، أن أي لوحة تتضمن هذه الألوان، حتى لو كانت تعرض بطيخاً، ستُصادر لتضمنها ألواناً ممنوعة".
وفي عام 2007، خرج الفنان التشكيلي الفلسطيني خالد حوراني، بما أسماه سلسلة "قصة البطيخ"، وظهرت في الأطلس الذاتي الفلسطيني، وقتذاك. يقول حوراني لـ"العربي الجديد": "عندما سمعت بالقصة من زملائي الفنانين لأول مرة، حضرت فكرة رسم بطيخة، واستغربت أن أياً منهم لم يُنتج عملاً عن هذه القصة الطريفة. في عام 2007، غامرت بعمل ساخر في إطار مشروع أطلس فلسطين الذاتي، ورسمت "العَلَم البطيخة". نُشر العمل في كتاب "أطلس فلسطين الذاتي"، كجزء من فكرة عن عَلَم فلسطين الجديد، وذُكرت القصة فيه. في عام 2009، رسمتُ بطيخة على حائط صالة العرض في مدينة تولوز في فرنسا بحجم ضخم، وكررتُ ذلك في العديد من المعارض الفنية، بالرسم المباشر على حائط صالة العرض، أو بطباعة حريرية على ورق مقوى، كما في دارة الفنون في عمّان، وبلغ عدد ما أنتجته 13 نسخة موقعة، اقتناها أفراد ومؤسسات، فيما كانت البطيخة، ومنها نسخة مرسومة باليد جزءاً من معرضي الاستعادي الأول في مركز الفن المعاصر بمدينة غلاسكو عام 2014، حيث رسمتها على جدار المركز".
في عام 2021، عاد البطيخ إلى الظهور مرّة أخرى، بعد أن أصدرت محكمة إسرائيلية حُكماً بطرد عائلات فلسطينية من منازلهم في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية، وإخلائها للمستوطنين، فمُنع أهالي الحي والمتضامنون معهم من رفع العلم الفلسطيني تحت طائلة الحبس أو الغرامة أو كليهما، بعد الاعتداء على حامل بالضرب، فكان البطيخ كرمز مرافقاً للفعاليات التضامنية التي رافقت "هبّة الشيخ جراح"، وبعدها تلك الرافضة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مختلف أنواع العالم.
ففي ذلك العام، وحسب ما ذكره الفنان خالد حوراني، أزال حرس الجامعة والشرطة في مدينة روتردام لافتة رفعها الطلاب، مزينة بالعَلَم الفلسطيني، ومكتوب عليها عبارات تدعو إلى الحرية لفلسطين ووقف سياسة التطهير العرقي، وإلى التضامن مع الشيخ جرّاح، وبعدها رفع طلاب أكاديمية روتردام للفنون لافتة بديلة مرسوم عليها بطيخة ومكتوب تحتها عبارة: "هذه ليست بطيخة"، وذلك للالتفاف على قرار المنع، إذ إن البطيخة تحتوي على ألوان العَلَم الفلسطيني، وبسبب منع تثبيت لافتة بشكل دائم، عمد الطلاب أيضاً إلى حمل اللافتة بشكل دوري بدلاً من تعليقها على مدار اليوم ولمدة أسبوع. كان ذلك في إطار حملة التضامن العالمية مع فلسطين.
وفي مطلع العام الحالي، منح وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف، إيتمار بن غفير، الشرطة الإسرائيلية صلاحية مصادرة الأعلام الفلسطينية. وفي وقت لاحق، وتحديداً في يونيو/حزيران الماضي، تم التصويت في الكنيست الإسرائيلي على مشروع يحظر إظهار العلم الفلسطيني في المؤسسات التي تموّلها الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك الجامعات في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948. وحصل مشروع القانون على موافقة مبدئية، قبل انهيار الحكومة في وقت لاحق، إلا أنه وبالتزامن مع مساعي إقرار القانون، أطلقت منظمة "زريم"، وهي منظمة للمجتمع العربي الإسرائيلي، حملة احتجاجية على الاعتقالات التي رافقت مصادرة الأعلام التي تلت التصويت على مشروع القانون، فلصقت صور البطيخ على 16 سيارة عمومية في تل أبيب، وكُتب عليها: "هذا ليس علم فلسطين".
بدوره، يروي حوراني: "قدمتُ هذه الحيلة الفنية في حينه، كنوع من السخرية واقتراح البديل، وللتدليل على المكان الذي وصل إليه عقل الاحتلال وخياله المريض من جهة، ومن جهة ثانية للتدليل على تمسك الفلسطينيين بعلَم بلادهم واعتزازهم به كغيرهم من الشعوب. حضرت البطيخة العَلَم والقصة التي تقف خلفه لتكون ثيمة مؤثرة في وسائل الإعلام وخلال التظاهرات على حد سواء. كان رمزاً اختاره الناس بعفوية تامة، وربما يعود الأمر إلى البساطة الشديدة للفكرة، وإلى الكيفية التي يستطيع الفن والألوان عبرها أن يلتفّا من خلال السخرية على المنع والقمع ومنغصات الواقع، خاصة إذا ما كنّا تحت الاحتلال.. حضرت البطيخة كجزء من المواجهة مع الاحتلال: هنا في فلسطين، وفي أيّ مكان".