أفلامٌ في مسابقة "فينيسيا 81": طرحٌ مُتكرّر لمشاكل بشرية معقّدة

04 سبتمبر 2024
أنجلينا جولي في "فينيسيا 81": إنّها ماريا كالاس في أيامها الأخيرة (ستيفان كاردينالي/Getty)
+ الخط -

 

تكشف غالبية أفلام مسابقة الدورة الـ81 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2024) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، الفلسفة الخاصة ببرمجة الأفلام هذا العام، التي ضمّت توليفة تطرح أساساً قضايا إنسانية معاصرة وآنيّة ملحّة، معظمها عن العلاقات البشرية المركّبة والمعقّدة وغير السويّة. وذلك في إطار عامٍ يمزج الاجتماعي بالنفسي والجنسي. كما أنّ هناك حضوراً للتاريخ الحديث، بغرض إسقاطات على الواقع السياسي الراهن، والمشاكل التي يمرّ بها العالم المعاصر.

تجلّى هذا في "ساحة المعركة"، لجياني أميليو: إنّها الحرب العالمية الأولى، لكنْ من دون ظهور جبهةٍ أو معركة، ومن دون سماع أصوات رصاص ومدافع. مع هذا، النصّ في صلبها، فنكابد معاناة من نوع آخر. يعود جنود مراهقون إلى المستشفى العسكري بإصابات، تتراوح بين فادحة وخطرة ومتوسّطة. رغم ذلك، يُدفعون إلى الجبهة مجدّداً، وإنْ بعين واحدة أو بطرفٍ مبتور. الجميع يودّون الفرار، ولا أحد يريد الموت. الجميع يرغبون في عيش الحياة مع أهل وأسَر.

من دون توقّع، يظهر الطبيب الشاب ستيفانو، الذي يعالج جروحهم بإيذائهم، فيصبحون غير صالحين للقتال. تدريجياً، يلتمس معظمهم أنْ يُشوّههم. في هذا، تنضم إليه ممرضة، ما يُعقِّد الأمور.

في "أنا ما زلت هنا"، يعود والتر ساليس إلى واقعةٍ تاريخية، عن مختفين قسراً في فترة حكم الديكتاتورية العسكرية في البرازيل، عبر قصة روبينز بايفا وأسرته: زوجته يونيس، محامية سياسية، وخمسة أبناء. تولّت الزوجة مسؤولية الأسرة، ولم تتوانى عن البحث عن زوجها، بعد القبض عليه، واختفاء أي أثر له في أوائل سبعينيات القرن الـ20، ولم يعثر على رفاته ورفات آخرين غيره حتى اللحظة.

من الأفلام التي تحذِّر من الراهن، مستلهمة الماضي (ثمانينيات القرن الـ20) في أميركا (أحداث حقيقية): "أوامر" لجوستين كورتزل. عن حركة يمينية متطرّفة وعنيفة، تؤمن بتفوّق العرق الأبيض وضرورة سيادته، وإقامة دولته الخاصة. تسعى الحركة، بقوة وعنف ودموية، إلى إقامة وطن خاص بأصحاب البشرة البيضاء، والتخطيط لبثّ الرعب والفوضى وتفتيت الولايات المتحدة. تتولّى الـFBI أمرها، لكنْ بعد معاناة شديدة.

 

 

فيلم آخر يتناول، بغرابة، هشاشة العلاقات الإنسانية، ويتساءل عن جدواها وجديتها، خاصة الارتباط والزواج والرفقة والدور المحوري للحب في استمرارها من عدمه، وعمّا إذا كان الحب يدوم أم لا: "ثلاث صديقات" لإيمانويل موريه. كيف التبست المشاعر المركّبة، وتداخلت علاقات الحب في حياة ثلاث صديقات، إلى درجة تُثير أسئلة كثيرة عن العلاقات الغرامية، وعن علاقات الصداقة والمودة والصدق والالتزام والخيانة.

في الإطار نفسه، هناك علاقات شَدّ وجذب وحب ونفور وطاعة وإخلاص وتكبّر وسيطرة، بين أسطورة الغناء الأوبرالي ماريا كالاس، في "ماريا" لبابلو لارين، وخادمها وطبّاخها، الشخصان الوحيدان اللذان عاشت معهما كالاس أيامها الأخيرة، التي شهدت معاناتها أزمات عدّة، متعلّقة بالوحدة وانحسار الأضواء والابتعاد عن الأوبرا، ومسائل صحية (اعتلال قلبها) ونفسية أساساً. تتجلّى معاناة من كانت مالئة السمع والبصر، التي باتت مدمنة على عقاقير الاكتئاب، في محاولة للتخفيف عن نفسها، لكنْ من دون جدوى.

تعقيدات النفس البشرية، وتحديداً المشاكل الجنسية والاضطرابات النفسية المترتبة عليها، وصعوبات العلاقة الزوجية، وعدم المصارحة، وكتمان الرغبات، والكذب والادّعاء، وإنْ في إطار أسرة سعيدة، وزواج ناجح، وامتلاك ثروة مالية ومكانة اجتماعية؛ هذا كلّه في "بايبي غيرل" لهالينا راين، التي لم تفلح في سبر أغوار البطلة، التي تعاني مشكلة جنسية تتعلّق بتركيبتها الشخصية القيادية المسيطرة، وربما الاستبدادية، والتي تخضع في النهاية، كعبد مطيع، لرغبات شاب ونزواته، جاء للتدرّب في شركتها، أملاً في نيل وظيفة بقيادتها.

في نوعٍ رائج تُبرمج أفلامه عادة في أي مهرجان، يطلق عليه "أفلام النضج"، أو الانتقال من المراهقة إلى البلوغ، هناك "أولادهم مثلهم" للودفيك وزوران بوخرما: في بلدة ريفية هادئة في شرقي فرنسا، يمضي مراهقون، يبحثون عن مستقبل ما غير محدّد، أوقاتهم بلا هدف واضح، أو سعي حثيث إلى تحقيق طموح ما. تحضر مشاكل المراهقة والبلوغ، والمخدرات والجنس، والحب والعلاقات الفاشلة، والعنف والتنمّر، بصُور مختلفة، في استعراض أحداثٍ لطبقتين اجتماعيتين، متوسّطة وثرية. لكنْ، بعيداً عن تفاصيل الأحداث الخاصة بالمراهقين، يُلمّح الفيلم إلى أنّ للأسرة والأهل والتربية الدور الأول والأخير.

أمّا الأكثر بروزاً، فنياً وجمالياً وسينمائياً، الذي اتّسم بجدّة في الموضوع والطرح والتناول والمعالجة، وجودة أداء، وبراعة تنفيذ سينمائية، كان "اقتل الفارس" للويس أورتيغا: أحد أبطال الفروسية يعاني إدماناً شديداً، إلى درجة عدم قدرته على المنافسة، ما يدفع الكبار حوله إلى إعادته إلى صوابه، كي لا يخسروا أعمالهم ومراهناتهم. رغم بساطة القصة، ومحدودية الشخصيات والخيوط السردية، ليس الفيلم سهلاً في التناول العبثي، وأحياناً الفانتازي المفارق للواقع أحياناً كثيرة. مع ذلك، يسهل جداً تقبّل هذا العالم الغريب، والتفاعل والاندماج معه، فلا يُدهَش أحدٌ لرؤية البطل يمشي على جدار أو سقف، فوفقاً لبنية الفيلم وسرديّته، هذا الأمر طبيعيّ.

المساهمون