أرشيف الاحتجاجات في لبنان: توثيق وسرد بصريّ وتكثيف للحدث

20 يونيو 2022
غطت "أخبار الساحة" التحركات الاحتجاجية في مختلف المناطق اللبنانية (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -

في محاولة لـ "تقديم سرديّة للأحداث من وجهة نظر صانعيها وليس السلطة"، أطلقت منصة "أخبار الساحة" يوم الأربعاء الفائت موقعاً لأرشيف الاحتجاجات الشعبية التي شهدها لبنان منذ عام 2019. أكثر من 10 آلاف مادة، ما بين فيديو وصور وبوسترات ونصوصٍ، ضمّها موقع "أرشيف الاحتجاجات في لبنان"، في خطوة جديدة للمنصة التي اقتصر عملها منذ البداية (أغسطس/ آب من عام 2015) على مواقع التواصل الاجتماعية المختلفة.  

يبدأ المشروع أرشفته من الحراك الذي شهدته المخيمات الفلسطينية في شهر يوليو/ تموز من عام 2019، بعد قرار وزير العمل اللبناني السابق "مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية"، وصولاً إلى يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه وكلّ ما تلاه من احتجاجات في مختلف المناطق اللبنانية.  

من الـ "هيلا هيلا" إلى "طاق طاق"

موقع الأرشيف سهل التصفّح، وذلك مقارنة بضخامة المادة التي يُقدّمها. لا استعراض ولا تعقيد، بل مضمون وجهد واضحان لجعل التجربة سلسة على كل متصفّح. يُمكن للزوّار الاطّلاع على الأرشيف كاملاً، وفق خاصيّة الأكثر مشاهدة أو الأكثر قدماً. اعتماد الخيار الثاني يُعطي إمكانية مراقبة أشكال تطوّر الحراك الاحتجاجي زمنيّاً. تصاعد الأحداث، هدوؤها أو انحباسها ثمّ عودتها. خيارٌ نجح القائمون على المشروع في جعله ممكناً من خلال آليّة الأرشفة، التي اعتمدت عناوين خبرية واضحة لناحية مكان الحدث ومضمونه أو سببيّته. 

لهذا، يكفي على سبيل المثال الاطلاع على العناوين من الأقدم إلى الأحدث، للتمكّن من رسم خريطة زمنية ومناطقية لتصاعد حركة الاحتجاج في مختلف المناطق اللبنانية. هذا خيارٌ من ضمن خيارات كثيرة، التي ستختلف مع اختلاف نيّة الزائر، نجح الموقع بشكل كبير في توقّعها أو تسهيلها. يعتمد الأرشيف على سلسلة من الكلمات المفتاحية (يسقط حكم المصرف، فساد، حراك الطلاب، اعتداءات، وقمع، وغيرها...) تساعد المتصفّح في الوصول بشكل أيسر إلى هدفه عبر حصر خياراته وتحديدها. اختيار هذه الكلمات المفتاحية قد يكون مساهمةً ناجحة في إعادة رسم الخطوط العريضة للحركة الاحتجاجية، وتكثيف مسبّباتها وأشكال التعبير عنها وآليّات قمعها.

ولكن في نفس الوقت، من الممكن ملاحظة نقطة ضعف تقنية، تحديداً في خاصيّة البحث والتي تشكّل أساساً ورافعة لأي مشروع أرشفة، إذ وزّع الموقع خانات البحث حسب مجموعة من التصنيفات: المحافظة، المدينة، المعلم، التاريخ، الهتافات، الكلمات المفتاحية، الشخصيات أو المصدر والناشر. ولكن ليس متاحاً للزائر تحديد أكثر من تصنيف واحد للبحث، بما معناه أن المتصفّح لا يستطيع الجمع في بحثه بين تاريخ زمني وهتاف محدّد على سبيل المثال لا الحصر. مشكلة تقنية قد تكون عائقاً أمام زائر يبحث عن مادة واحدة بعينها ويرغب في تجربة سريعة للوصول إلى هدفه. تواصلنا مع القائمين على المشروع، لسؤالهم عن الثغرات وعن احتماليّة تطوير الموقع. هم لا يدّعون "الكماليّة" وواعون إلى "حاجة الموقع للتطوير والتحسين"، خاصة أنه ما زال في مرحلته التجريبيّة. استغرق التحضير والتأسيس للموقع حوالي السنتين، بينما تركّز عمل الأرشفة البحت في حوالي الثمانية أشهر. 

لماذا ثورة 17 تشرين؟

أجاب فريق "أخبار الساحة" عن الكثير من الأسئلة التي قد تُطرح حول مشروع الأرشيف في خانة "من، لماذا وكيف". أوّلها سؤال لماذا ثورة 17 تشرين 2019؟ ما الخصوصيّة في هذه الحركة الاحتجاجية التي تستدعي خلق منصة لأرشفة أحداثها؟ يُجيب القائمون على المشروع عن السؤال في خانة التعريف الخاصة بالموقع: "ما يُميّز ثورة تشرين 2019 عمّا سبقها من تحركات احتجاجية، انتشارها وتشظيها ولا مركزيّتها، بما يتجاوز العاصمة بيروت". 

هذا الحديث عن لا مركزيّة احتجاجات 17 تشرين يفتح الباب على أهميّة تجربة "أخبار الساحة" بشكل عام على مرّ السنوات. عملت المنصة على تغطية التحركات الاحتجاجية في مختلف المناطق اللبنانية، متفاديةً الوقوع في فخ تغطية تحركات "شعبية" من تنظيم أحزاب لبنانية. يعتمدون منطقاً وسياسةً للنشر واضحة في انحيازها إلى الفئات المهمشة وصوت الشارع، بأقلّ تدخّل ممكن من الأشخاص. ولكن هذا لا يلغي طابع الصفحة السياسي، عبر مواقف وبيانات صادرة عنهم للتعبير عن موقفهم في أحداث معينة. نجحت تجربة "أخبار الساحة" في استحضار ما اعتادت الوسائل الإعلامية اللبنانية التقليدية على تهميشه، إذ درجت العادة تركيز الاهتمام على ما يجري في العاصمة بيروت، وتهميش أو تناسي ما يجري في "الأطراف". 

إعلام وحريات
التحديثات الحية

ما سمح لهذه المنصة توسيع رقعة تغطياتها هو تمكّنها من اعتماد شبكة من المراسلين والمراسلات المتطوّعين من مناطق كثيرة، وتواصل عدد كبير من المتابعين معها لنشر محتواهم من التحركات. باختصار، هو إشراكٌ لأطراف متعددة في عملية نقل الأخبار، في أسرع وقت ممكن، من دون أن يخلو الأمر من اعتماد "آليات التحقق من المصداقية". بناء عليه، فان أغلب المواد المنشورة على موقع الأرشيف، سواء فيديو أو صورة، هي مواد غير محترفة؛ أي غير ذات جودة عالية. تصوير بإمكانات وأدوات متواضعة، لقطات عفوية نقلت الشارع كما هو بناسه ولغتهم وبكل ما حملوه من غضب وفرح باستعادة الحيّز العام. مجموع الأرشيف الآن هو تجميعة من مواد أصيلة أو منقولة من مصادر أخرى (تمّ احترامها وذكرها بمهنية)، ولكنها دعوة مفتوحة إلى كل من يرغب في إثراء أرشيف الاحتجاجات بمواد خاصة (منشورة أو غير منشورة). 

الذاكرة والسرد البصري

يُساهم هذا المشروع في حفظ ذاكرة مرحلة مهمة من تاريخ لبنان، عبر مراكمة انتفاضة الشارع وتحولاته، من دون تدخل جذري أو حاد في السرديّة. كما أنّ اهتمام المشروع بأصوات الفئات المهمشة، من لاجئين ولاجئات وعاملات أجنبيات وقضايا المثليات/ين والترانس، يزيده أهميّة بسبب تغييب هذه القضايا عن الإعلام التقليدي، وحتى في بعض المنصات الإعلامية البديلة. ما يُتيح نقلاً للحظة سياسية/اجتماعية بكل ما حملت من تنوّع. 

ولكن هل يُمكننا الحديث عن أرشيف أو ذاكرة موضوعية؟ يُجيب فريق أخبار الساحة عن سؤالنا بوضوح. هم لا يدّعون استقلاليّة ما، بل انحيازهم تامّ الى الشارع وناسه. وهذا موقف سياسي نشأت على أساسه فكرة المنصة منذ بداياتها. وفي مراحل بناء أرضية مشروع الأرشيف، أخضعوا عمليّة اختيار الكلمات المفتاحية لنقاشات طويلة، فعلى سبيل المثال لم يكن اعتماد كلمة "عصيان" بدلاً من "شغب" على سبيل المثال فعلاً حياديّاً، بل كان "نتاج عملية تفكير وقرار سياسي واعٍ لما قد تحمله كل كلمة من معانٍ وتأويل". كذلك هم في انحيازهم إلى سلامة المحتجات/ين، أكثر منه المواد نفسها، وذلك عبر اعتماد أولوية حمايتهم، بحيث أخضع الفريق جميع المواد إلى تدقيق وتغطية للوجوه التي قد يتسبّب نشرها بضرر وملاحقة أمنية لأصحابها (عمليات تكسير واجهات البنوك وحرقها مثلاً). 

استفادت تجربة "أرشيف الاحتجاجات في لبنان" من تجربة الأرشيف المصري 858، الذي وثّق أحداث الثورة المصرية. كذلك من تجربة أرشيف الثورة السورية، وأرشيف الثورة اليمنية والثورة السودانية. كانت لهذه المحاولات السابقة تجربة لحفظ الأرشيف في موقع يوتيوب، ولكن بسبب سياسة المنصّة وحجبها المحتوى بحجج العنف وغيرها كان قرار "أخبار الساحة" بخلق موقع إلكتروني آمن حماية وحفظاً للأرشيف من التدخلات والتعديل والرقابة. وبهذا تُضاف تجربة أرشيفية جديدة في العالم العربي، لضمان نقل رواية أكثر دقّة. 
 

المساهمون