أرشيف الأفلام الفلسطينية يُحفظ جنوبي فرنسا

30 مايو 2024
المخرجة السينمائية خديجة حباشنة (فيسبوك)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في مدينة تولوز الفرنسية، تحتفظ المكتبة السينمائية بأعمال سينمائية فلسطينية قيمة من السبعينيات، جمعتها المخرجة خديجة حباشنة، تعكس الحياة والنضال في فلسطين.
- خديجة حباشنة عرضت هذه الأفلام، التي تمت رقمنتها وترميمها، في مهرجان سيني-فلسطين بتولوز في مارس 2024، مسلطة الضوء على النضال الفلسطيني وتعزيز مكانة السينما الفلسطينية.
- الجهود المبذولة لحفظ وعرض هذه الأفلام تعكس التزاماً بحماية التراث الثقافي والتاريخي الفلسطيني، مع دعم من وزارة الثقافة الفلسطينية والقنصلية الفرنسية في القدس، مقدمة فرصة للفلسطينيين لرؤية تاريخهم من منظورهم.

منذ سنة تقريباً، تحتفظ المكتبة السينمائية في مدينة تولوز، جنوب غربي فرنسا، بنسخ رقمية من أعمال سينمائية فلسطينية صوّر جلها في سبعينيات القرن العشرين من قبل مُخرجين مناضلين. تعتبر هذه الأفلام كنوزاً من التراث الثقافي والسياسي الممهِّد للعودة إلى فلسطين، وقد جمعتها المخرجة السينمائية خديجة حباشنة.
طفلان يلعبان الكجة في غبار مخيم للاجئين، ومقاتل يشق طريقه في أحد الأزقة وبيده رشاش، وامرأة مشغولة في المطبخ، وخطوات بطيئة لرجل عجوز يتفقد حقل أشجار الزيتون، ونظرات تحد يرسلها شاب يرمق جنوداً من الجيش الإسرائيلي، ومثقف يحلل آخر المفاوضات الدبلوماسية...
صور بالأبيض والأسود، أغلبها طاوله التلف. شريط بصوت مشوش أو غير واضح في بعض الأحيان. لكنها صور ذات أهمية كبرى؛ هي أرشيف سينمائي يحكي قصة فلسطين خلال نهاية الستينيات وبداية الثمانينيات. جزء من هذا أرشيف الأفلام الفلسطينية لم ينشر من قبل، وبعضه غير معروف بما يكفي، وكثير منه في مأمن داخل المكتبة السينمائية في تولوز منذ دخول الموسم الدراسي لسنة 2023.

من البندقية إلى الكاميرا

تمت رقمنة ما مجموعه 34 فيلماً، وما رُمّم، بما في ذلك الأفلام القصيرة والمتوسطة والطويلة، هي أفلام وثائقية حصراً صوّرها مخرجون فلسطينيون. في مارس/ آذار 2024، تمكّن الجمهور من اكتشاف جزء من هذه الثروة خلال أمسيتين، وتحديداً في الثامن والتاسع من مارس، تحت عنوان "أرشيف في المنفى"، كجزء من الدورة العاشرة لمهرجان سيني ــ فلسطين في تولوز. في الأمسيتين، وأمام جمهور غفير في كل مرة، وقفت المخرجة الفلسطينية خديجة حباشنة، صاحبة الفضل في إخراج هذه الأفلام إلى النور بعدما أمضت السنوات العشرين الماضية في بحث وعمل متواصلين لتجميعها وحفظها.
تبدأ القصة في صيف 1982 حين غادرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والفدائيون الفلسطينيون المحاصرون من قبل الجيش الإسرائيلي بيروت على متن سفينة تحت حماية قوة متعددة الجنسيات. وقد تركوا كنزاً صغيراً في العاصمة اللبنانية: مكتبة أفلام تحتوي على أفلام من إنتاج فلسطينيين وفلسطينيات، أنتجتها أو شاركت في إنتاجها مختلف تشكيلات منظمة التحرير الفلسطينية (خاصة حركة فتح، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، وأيضاً صانعو أفلام أجانب من أصدقاء الثورة الفلسطينية. تحتوي المكتبة أيضاً على أرشيف كبير من المواد السينمائية غير المكتملة، والتي صوّرها مخرجون فلسطينيون وأجانب منذ سنة 1967. كانت خديجة حباشنة ضمن القافلة التي غادرت لبنان. تتذكر خديجة حباشنة في اتصال مع فريق "أوريان 21" في عمّان: "كان بحوزتنا ما بين 85 و90 فيلماً في المكتبة السينمائية في بيروت، والكثير من اللقطات التي توثق نشاطات حركة المقاومة: مواجهة مع الصهاينة، والحياة اليومية وأوضاع الناس في المخيمات، وتظاهرة، واعتصام، ونشاطات اجتماعية وثقافية، ودورات تدريبية على السلاح، والتدريس في المخيمات، وما إلى ذلك. كل أنشطة الثورة... ولكن كان هناك الكثير من الوثائق المتراكمة، ولم نتمكن من أخذها معنا عندما ركبنا القارب".
تم إخراج أول الأفلام عام 1967 على يد مخرجين فلسطينيين، من بينهم مصطفى أبو علي زوج خديجة حباشنة، وهاني جوهرية وسلافة جاد الله. وفي العام التالي في الأردن، كان هؤلاء وراء تأسيس وحدة أفلام فلسطين، وهي هيكل تابع لحركة فتح، والتي أصبحت عام 1970 معهد السينما الفلسطينية تحت إشراف منظمة التحرير الفلسطينية.
سواء كانت أفلاماً مكتملة أو حتى مجرد بكرات تصوير خام، فإن معهد السينما الفلسطينية يحتفظ بمواد سينمائية أخرجها وأنتجها مخرجون "عزموا على الالتزام بالخط الفلسطيني المقاوم، ويكون ذلك بالنسبة لهم عبر السينما والتصوير الفوتوغرافي"، كما يوضح هوغو دارومان، الحاصل على الدكتوراه في الدراسات السينمائية والمتخصص في السينما الفلسطينية. كان توثيق النضال من أجل التحرر الوطني ونشره ودعمه مسألة سياسية ملحة بالنسبة لهم. وكانت صورهم وأفلامهم، التي غالباً ما يكون فيها الانتقال من البندقية إلى الكاميرا ملموساً، لتجد مكاناً في "السينما الثالثة" التي سميت على اسم الحركة السينمائية التي ظهرت في أميركا اللاتينية خلال الستينيات.
وإلى جانب الأفلام التي أنتجتها تنظيمات مختلفة تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، هناك أعمال أخرى عن فلسطين أخرجها أو شارك في إنتاجها مخرجون فيتناميون وسوفييت وكوبيون...
جل هذه الأفلام وثائقيات، فـ"في ذلك الوقت، لم يكن بإمكاننا إنتاج أفلام روائية، فهي تتطلب الكثير من المال، ولم يكن من السهل توزيعها في دور السينما. لذلك، قمنا بشكل أساسي بإخراج أفلام وثائقية عرضت في المهرجانات..."، تشرح خديجة حباشنة. أُرسلت نسخ من هذه الأفلام إلى تمثيليات منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج، وإلى رفاق الثورة في العالم العربي وأوروبا، وإلى مجموعات من الأصدقاء السينمائيين. وفي كل مكان في العالم تقريباً، عُرضت الصور في النوادي والمراكز الاجتماعية ضمن حلقات نقاش ولقاءات. وبحسب حباشنة: "في السبعينيات، كانت السينما الفلسطينية أهم السينمات النضالية في العالم".

أرشيف الأفلام الفلسطينية سرقه الجيش الإسرائيلي

رغم خروج منظمة التحرير من بيروت في 1982، بقي أعضاء معهد السينما الفلسطينية في بيروت، وحاولوا الحفاظ على جميع الأفلام والأرشيفات الأصلية للمعهد في مأمن. لكن بعد بضع سنوات، اختفى أثر البكرات التي اختفت خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي لم تنتهِ إلا سنة 1990. كشفت الباحثة الإسرائيلية رونا سيلا التي تعمل على "التاريخ المرئي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني" عن هذه الاختفاءات في مقال نشر في 2017 بعنوان "مُصادَر في بيروت، الأرشيف المنهوب لمعهد السينما الفلسطينية وقسم الفن والثقافة". كانت تُحفظ الأفلام في استديو روك في بيروت، ولكنها اختفت بدءاً من سنة 1982، بينما اختفت البكرات الخام، التي انتقلت من أحياء الفخّاني إلى الحمرا في بيروت، عام 1986، أثناء تدهور الوضع في مخيمات اللاجئين في العاصمة اللبنانية. هذا، وكشفت نتائج أبحاث رونا، "المعتمدة على مصادر متنوعة، أن عدة أفلام من معهد السينما الفلسطينية التي كانت في استديو روك صودرت من قبل القوات الإسرائيلية، لتكون بالتالي في يد إدارة الأرشيف العسكري الإسرائيلي"، مُشيرة إلى أنه على العكس من ذلك لم يتم تأكيد "مصادرة" إسرائيلية (أي سرقة) "للأرشيف السينمائي الفلسطيني".
بالنسبة لهوغو دارومان، فإن "الفرضية الأكثر احتمالاً، حتى لو لم تُؤكد رسمياً من قبل السلطات الإسرائيلية، هي أن إسرائيل تحتفظ حتى اليوم بهذا الأرشيف". في الواقع، من الصعب التحقق من ذلك، رغم أنه وفقاً لموقع الجريدة المدنية فإن وزارة الدفاع الإسرائيلية تعترف بأن الأرشيف العسكري يحتوي على 158 فيلماً تمت مصادرتها خلال حرب لبنان سنة 1982.
اعتباراً من سنة 2004، قررت خديجة حباشنة الشروع في البحث عن هذه الأفلام المفقودة. أراد زوجها مصطفى أبو علي، الذي كان يعيش في رام الله، وهو مخرج الفيلم الكلاسيكي "ليس لهم وجود" (1974)، في إشارة إلى العبارة التي قالتها غولدا مائير عام 1969، والتي تنفي وجود الشعب الفلسطيني، إعادة إنشاء مكتبة أفلام فلسطينية. وعندما توفي سنة 2009، واصلت حباشنة أعمال البحث والتجميع بنفسها. وعلى مدى أكثر من خمسة عشر عاماً، سافرت في جميع أنحاء أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، وتبادلت العديد من الرسائل الإلكترونية والمكالمات الهاتفية. وتلخص ذلك بقولها: "اتصلت بأكثر من مائة شخص، من أحزاب سياسية ومسؤولين وتمثيليات سابقة تحولت الى سفارات، ممن يُحتمل أن تكون بحوزتهم نسخ. جمعنا نحو ستين فيلماً، وكان لدينا من بينها 30 فيلماً". في 2012، علمت أن الأرشيف السمعي البصري للحركة العمالية الديمقراطية (AAMOD) استعاد أرشيف الحزب الشيوعي الإيطالي، ومن بينها فيلم عن مجزرة ومعركة ومقاومة مخيم تل الزعتر 1976 في لبنان. في سياق البحث، ظهرت أفلام أخرى من تلك الفترة، محفوظة في برلين وتونس على وجه الخصوص، لكن الكثير من بين الأفلام التي وجدتها حباشنة وجب إنقاذها وحفظها من جديد.

تناغماً مع المدينة الوردية

سنة 2018، دعيت المخرجة لحضور الدورة الرابعة من مهرجان سيني-فلسطين في تولوز والمشاركة في جلسة نقاش حول مسألة الأرشيف. كانت تبحث حينها عن شراكات وأماكن لحفظ كل ما جمعته. وبعد عام واحد، التقى المدير المفوض للمكتبة السينمائية في تولوز فرانك لوريه بالمخرجة في القدس ثم في رام الله. "نحن أمام مشروع مذهل، فقد قضت جزءاً كبيراً من حياتها في البحث عن نسخ من الأفلام، ولا يمكننا تركها وحدها في ذلك..."، كما يصرح لوريه.
المكتبة السينمائية في تولوز افتتحت في 1964، وهي ثاني أكبر مكتبة سينمائية وطنية في فرنسا بعد باريس، وتحتوي على واحدة من أهم مجموعات الأفلام في أوروبا، بنحو 53 ألف نسخة من الأفلام. "وفي تولوز، لدينا أرشيف نضالي كبير تاريخياً"، يضيف فرانك لوريه، الذي يرى أن الأفلام التي جُمعت من قبل خديجة حباشنة "تُثير اهتماماً كبيراً". ويردف: "لكن العمل الذي نقوم به نحن هو في المقام الأول عمل مؤرخي السينما. يجب أن تتم معالجة هذه الأفلام، وتحليلها وعرضها للطلاب والباحثين بقدر الإمكان. شخصياً، أصر دائماً على أن تعرض مع خبراء يعرفون تاريخ الموضوع الأصلي. شارفت هذه الأفلام على الاندثار، ودورنا هو إنقاذها".

ورصدت ميزانية قدرت بنحو خمسين ألف يورو لجمعها وإحضارها إلى مدينة تولوز من عمّان ومن القاهرة (حيث لا تزال هناك سبعة أفلام متضررة للغاية بحيث لا يمكن ترميمها ورقمنتها). وستكون هناك حاجة إلى خمسة عشر ألف يورو إضافية للمرحلة الثانية التي تتضمن توزيع وعرض الأفلام. وبالإضافة إلى المكتبة السينمائية في تولوز، تشارك أيضاً وزارة الثقافة الفلسطينية والقنصلية العامة الفرنسية في القدس ومركز جميل للفنون في دبي بمختلف أطوار المشروع. وبموجب الاتفاقية الموقعة، تتعهد المكتبة السينمائية في الجنوب الغربي بالحفاظ على أرشيف الأفلام الفلسطينية إلى أن يتوفر لفلسطين هيكل قادر على استعادتها وحفظها في ظروف جيدة سواء تعلق الأمر بالمسائل اللوجستية أو السياسية.
اكتشفت الصحافية الفرنسية الفلسطينية ومراسلة وكالة الأنباء الإسبانية في قطاع غزة من 1997 إلى 2000 أسماء العطاونة وجود هذه الأفلام في مهرجان سينما فلسطين في مارس/ آذار الماضي. وتمكنت تحديداً من مشاهدة "مشاهد من الاحتلال في غزة"، وهو فيلم وثائقي مدته 13 دقيقة صوّره مصطفى أبو علي سنة 1973، والذي يُظهر عنف الاحتلال وبأس المقاومة الفلسطينية في القطاع الذي نشأت فيه وما زالت تعيش فيه عائلتها. وتقول العطاونة: "خلال طفولتي، كانت الصور الوحيدة التي أشاهدها عن فلسطين هي تلك التي كانت تظهر في الأخبار، لطالما كانت تأتي من منظور خارجي، من الإسرائيليين أو من الصحافيين الأجانب. أما هنا، فالفلسطينيون هم الذين قاموا بالتصوير والتوثيق. هذه صور من زمن آبائي وأجدادي، وهي تؤكد كل القصص التي انتقلت إليّ شفهياً في العائلة. المنفى، والعنف، والدمار... كما لو أنهم كانوا يجسدون ما أخبرتني العائلة عنه. عندما رأيتهم، كان الأمر أشبه بتجميع أحجية".
بالنسبة لأسماء العطاونة، فإن ذاكرة الفلسطينيين "معطوبة بعض الشيء" بسبب خمس وسبعين عاماً من الاحتلال ومن السردية الصهيونية. "ولذلك فإن هذه الصور مهمة للغاية"، تؤكد العطاونة، وتصفها بأنها "أشبه بالمرآة...". تطمح خديجة حباشنة أيضاً إلى تقديم هذه الصور لأكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وتقول: "في كل الأحوال، فإنه من غير الممكن وضع هذا أرشيف الأفلام الفلسطينية  في فلسطين اليوم، حيث سيكون في خطر. يدمّر الإسرائيليون كل شيء هنا، حتى أن السواد الأعظم من شعبنا لم تتسنّ له قط إمكانية مشاهدة هذه الأفلام، في حين أن التاريخ والإرث الثقافيين هما جزء من هويتنا كبشر. لذا، وحين سيصبح ذلك ممكناً، سينقل هذا الأرشيف إلى المكتبة الوطنية الفلسطينية، وسيكون متاحاً للعموم حتى تكون رؤية هذه الصور والتعرف إلى هذا التاريخ مصدراً للفخر، وهو أمر على قدر كبير من الأهمية".

تنشره "العربي الجديد" بالتزامن مع "أوريان 21"

المساهمون