أراك عصي الدمع... نصّ لا يسقط بالتقادم

31 اغسطس 2021
بعد 4 عقود من تسجيلها، قررت أم كلثوم إعادة تقديم القصيدة (فرانس برس)
+ الخط -

لم يعرف الغناء العربي المدرك بالتسجيلات نصاً فصيحاً أو عامياً نال قدر الاهتمام الذي نالته قصيدة "أراك عصي الدمع" لأبي فراس الحمداني. فمنذ أن لحنها الرائد الكبير عبده الحمولي، أواخر القرن التاسع عشر، صارت القصيدة أشبه بفريضة غنائية، يؤديها أعلام الغناء والطرب، سواء في قصور الأثرياء، أم في مجالس البسطاء، يحيون بها الأفراح، ويسجلونها لشركات الأسطوانات، ويكررون تسجيلها، ويتصرفون في أدائها، ويتنافسون في استخراج جمل نغمية من لحنها.

ولعل ما يوضح المكانة الغنائية للقصيدة في عصر الطرب النهضوي أن مطرباً من وزن عبد الحي حلمي، الذي يعد مع الشيخ يوسف المنيلاوي أكثر اثنين تنافساً على وراثة المكانة الفنية لعبده الحمولي قد سجلها لشركات أسطوانات مهمة، من بينها: جرامافون، وأوديون، وبيضافون، وزنوفون، والأخيرة حصلت منه على تسجيلين مختلفين، ليصبح لدينا 5 تسجيلات مختلفة لنفس القصيدة بصوت عبد الحي حلمي فقط.

وإذا أضفنا إلى تسجيلات حلمي ما وصلنا لأداء القصيدة من تسجيلات لزكي مراد، وسيد الصفتي، ومحمد سليم، وأمين حسنين، وكذلك عدة تسجيلات مختلفة بصوت صالح عبد الحي، فإن ذلك يعد مؤشراً مهماً لمكانة القصيدة جماهيرياً وتجارياً، فهي عمل مرغوب من المستمع العادي، ولا تقتصر على النخب المثقفة، ولا المهتمين فقط بالنصوص الفصيحة... لأن "الربح" كان يمثل الهدف الأول والأخير لهذه الشركات الكبيرة.

المطربون الذين سجلوا القصيدة في العقود الأولى للقرن العشرين يتفقون جميعاً على نسبة لحنها لعبده الحمولي. وفي الحقيقة، أن المستمع لا يجد في هذه التسجيلات على اختلافها لحناً واضحاً، محدد المعالم، دقيق المقاطع، وإنما نجد "مساراً" لحنياً، ضمن إطار من مقام البياتي، مع حرية كاملة للمطرب، تظهر من اختلاف تسجيلات القصيدة، التي لا يتطابق فيها أداءان تطابقاً كاملاً، حتى من نفس المطرب.

فالاختلافات الغنائية تظهر، حتى مع عبارة الاستهلال "أراك عصي الدمع" التي يؤديها بعض المطربين جملة واحدة موصولة، كما في تسجيل الشيخ أمين حسنين، ويقسمها آخرون إلى جزأين: "أراك عصي"، و"الدمع شيمتك الصبر" كما يفعل زكي مراد، أو إلى ثلاثة أجزاء: "أراك عصي" و"الدمع" و"شيمتك الصبر" كما يفعل عبد الحي حلمي في تسجيله لشركة "جرامافون". وقد خالفهم جميعاً الشيخ سيد الصفتي واستهل غناءه بأداء البيت الأول بشطريه كاملاً موصولاً. بل إن عبد الحي حلمي في أحد تسجيليه لشركة "زونوفون" استهل القصيدة بمقام مغاير هو "العراق"، لكن يبدو أنه لم ينسجم مع نفسه، فبادر إلى المسار الأصلي مع مقام البياتي.

كل هذه الخلفيات ضرورية للتعامل مع إشكال نسبة اللحن الذي سجلته أم كلثوم عام 1926، وقد حفظته كما غنته من الشيخ أبو العلا محمد. في رواية المؤرخ الموسيقي محمود كامل أن أم كلثوم لم تكن تعلم أن اللحن للحمولي، وظلت لسنوات تظن أنه من ألحان أبو العلا، إلى أن نبهها كامل بنفسه. لكن تسجيل أم كلثوم واضح المعالم، يشعر معه المستمع بأن ما فيه من "الإعداد المسبق" أكبر بكثير مما فيه من الارتجال، وهو يختلف بوضوح عن كل تسجيلات كبار المطربين أوائل القرن العشرين، حتى من جاء بعد جيل حلمي زكي مراد، مثل صالح عبد الحي. نعم، يغني الجميع، من مقام البياتي، لكن الارتجال وحرية تقطيع الجمل متروكان لكل مطرب.

وهذا الاختلاف الكبير يصب في صالح من يرى أن اللحن الذي غنته أم كلثوم هو من وضع الشيخ أبو العلا، الذي كان أول من قدم القصائد بألحان واضحة المعالم لا تعرف الارتجال. لكن احتمالاً ثالثاً يبقى مطروحاً، وهو أن يكون الشيخ أبو العلا قد أخذ اللحن عن الحمولي، وأن تكون روايته لأم كلثوم هي الأصدق، والأقرب إلى ما أراده "سي عبده"، بحكم ما عرف عن أبو العلا من حرص، وأمانة في النقل. وهو ما يعني أيضاً أن تغييرات كبيرة دخلت بسبب الارتجال على اللحن الأصلي، وأن أبو العلا أراد لأم كلثوم أن تعيد للحن شخصيته الحامولية... وفي كل الأحوال، سيبقى الحسم صعباً، بسبب افتقاد تسجيل واضح للقصيدة بصوت ملحنها، وبسبب الاختلافات الكبيرة بين المطربين في أدائها، وهيمنة "الارتجال" على كل تسجيلاتهم.

عملياً، تبارى كل المطربين ممن سجلوا القصيدة في أداء لفظة "نعم" أداء طربياً، يحمل قدراً كبيراً من "السلطنة"، سواء بالتكرار، أو بغنة النون، أو حتى بإدخال كلمة "يا سيدي" كما فعل زكي مراد، وكذلك بالقفل على الكلمة قفلة مشيخية تستخرج كلمات الاستحسان من الجمهور أو "المطيباتية".. وتميز تسجيل أم كلثوم بانكسارة لطيفة إلى مقام الصبا مع جملة "من خلائقه الكبر". ومن المهم أن نشير إلى أن معظم تسجيلات المطربين القدماء تبدأ بما يعرف بـ"دولاب العوذل"، تهيئة للمطرب كي يدخل في أجواء مقام البياتي.

وبعد نحو 4 عقود من تسجيلها القصيدة بنمطها القديم، قررت أم كلثوم إعادة تقديمها، بعد زيادة الأبيات المختارة للغناء، لتليق بعمل يقدم مسرحياً، وأعطت النص لرياض السنباطي، وأطلقت حفلها الأول على دار سينما قصر النيل، في 3 ديسمبر 1964.. وكما هو معتاد مع كل ما تقدمه أم كلثوم، حقق اللحن الجديد نجاحاً جماهيرياً، وتلقاه المستمعون بقدر معتبر من الاحترام والتبجيل، باعتباره نصاً فصيحاً، يتسم بالقوة والجزالة، لشاعر قديم لا معاصر.. لكن كثيرين من الحزب الكلثومي، بل ومن المفتونين بألحان السنباطي، رأوا أن اللحن لا يرقى لما اعتادوه من الموسيقار الكبير، السنباطي، وتحديداً مع أم كلثوم.
لم يكن السنباطي شهيراً باستخدام الآلات الغربية، فكانت استعانته بالبيانو في هذا اللحن مثار استغراب وتعجب، وبنظر المنتقدين، فإن البيانو لا يليق بنص تاريخي، وقصيدة هي سيدة النصوص الفصيحة المغناة. كما أخذ بعض النقاد على السنباطي هيمنة "الإرسال" على اللحن، إذ لا يجد المستمع "التوقيع" إلا في مقطع "معللتي بالوصل والموت دونه،" مما قد يكون سبباً لاستجلاب السآمة والملل.

وقد اعترف السنباطي بهذا النقد، وقال في حديثه الشهير لتلفزيون الكويت إنه لحّن القصيدة بأسلوب حديث، وإن المطربين القدماء كانوا يغنونها كل ليلة بطرق لا تتطابق، ولا يمكن ردها لنوتة موسيقية واحدة، وأقر السنباطي بما جرى من مقارنة بين لحنه واللحن القديم وتفضيل القديم على الجديد، واعتبر أن لحنه أكثر تعبيراً عن معاني القصيدة، ورد على منتقديه قائلاً بما معناه: "لقد حوربت في هذا اللحن، وقال بعضهم إن القديم أجود... كلاهما جيد".

موسيقى
التحديثات الحية

لكن بغض النظر عن قيمة اللحن، فمن المؤكد أن انبعاث القصيدة في الستينيات، وبصوت أكبر مطربات العرب، ولحن سيد من تعامل مع القصائد الفصيحة، يدل على الحالة الاستثنائية التي مثلتها "أراك عصي الدمع" في الوجدان العربي... وبالطبع، فإن هذا المعنى يتأكد، بإطباق معظم مصادر التأريخ لأم كلثوم، على أنها غنت القصيدة في الأربعينيات، بلحن من مقام السيكاه وضعه الشيخ زكريا أحمد، وما زال يعد من أهم مفقودات سيدة الغناء حتى اليوم.. لقد رأت أم كلثوم أن النص يستحق أن تغنيه، ثلاث مرات، بين كل مرة وأختها نحو 20 عاماً.

كانت تلك هي المحطات الرئيسة للقصيدة تلحيناً وغناء... وربما يظن من يرى الحالة الفنية الحديثة أن لا مكان لنص بهذا المستوى، وبهذه المكانة التاريخية في المشهد الغنائي المعاصر... لكن "أراك عصي الدمع" لا تتوقف عن الانبعاث وإثارة العجب، فخلال عقود الثمانينيات والتسعينيات، وبدايات الألفية الثالثة، ورغم كل ما يعانيه الغناء من تراجع وتدهور، بقي المطربون والملحنون، في مصر والعالم العربي، يستدعون القصيدة.. سواء بلحنها الحمولي القديم، أو بلحن السنباطي في الستينيات، أو بألحان جديدة يضعها ملحنون جدد.

وعلى سبيل التمثيل، فقد غناها بلحن جديد ذي طابع خليجي، المطرب السعودي محمد عبده، ومن قبله غناها في السعودية أيضا المطرب محمد علي سندي، وغناها بلحن مختلف المطرب والملحن السوداني عبد الكريم الكابلي، ومن اليمن أداها المطرب أيوب طارش، ومن الشباب الجدد المطرب الكويتي قتيبة، واللبناني أحمد حويلي.. وبالطبع، فإن قائمة من أداها بلحنها القديم، أو الستيناتي يصعب حصرها.

لكن هذا الحضور لـ"أراك عصي الدمع" في الغناء المعاصر يلفت الانتباه إلى أن محاولات قولبة العصر ضمن لون غناء معين تصطدم مع الواقع، فأطياف المستمعين تبلغ من التنوع والاختلاف مدى بعيداً، ولا يمكن أن ينسب أحد 100 مليون مصري، أو400 مليون عربي إلى شكل غنائي معين، ولو على سبيل الأكثرية والتغليب، ليس فقط لأن هذا الجمهور يتوزع على جبهات مختلفة، بل لأن هذه الجبهات تتداخل بدرجة كبيرة، ورقص مجموعة من الشبان على "مهرجان شعبي" لا ينفي أن من بينهم من يحب قصائد أم كلثوم، أو قديم عبد الوهاب، بل ربما يكون بينهم من يجمع أدوار صالح عبد الحي... بقاء قصيدة أبي فراس الحمداني غنائياً إلى اليوم برهان قاطع على مكانتها.. وأيضاً هو برهان قاطع على أن ما وصف "الذوق العام" يحمل معاني أوسع مما يخطر بالبال.

المساهمون