استمع إلى الملخص
- بعد أربعة عقود، تحولت القصيدة إلى أغنية بصوت أم كلثوم وألحان رياض السنباطي، مع تعديلات تركز على مناسك الحج وتحذف المدح المباشر للخديوي، لتصبح رمزًا للغناء الديني.
- القصيدة، بتلحين السنباطي وأداء أم كلثوم، تميزت بمعالجة نصية تركز على الحج مع الحفاظ على بعض الأبيات السياسية والعلمية التي حُذفت لاحقًا، مؤكدة على العلاقة بين الشعر، الموسيقى، والروحانية.
طلب خديوي مصر عباس حلمي الثاني (حكم 1892 - 1914) من الشاعر أحمد شوقي مصاحبته إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج. وعلى الرغم من أن الرحلة بـ"المعية الخديوية" تمثل -حينها- درجة عالية من التشريف، الذي يطمح إليه الوجهاء والأعيان، فإن هواجس معاناة السفر سيطرت على تفكير شوقي، فظل متردّداً، لا يدري ماذا يصنع، إذ لا يليق به وقد طلبه الخديوي باسمه أن يتخلف أو يعتذر.
وبعد وداع كبير في "محطة مصر"، انطلق الموكب الرسمي، حتى إذا فارق العمران، وبلغ "صحراء العباسية"، كان أحمد شوقي قد حسم أمره، فانسل من بين القوم، وقفل راجعاً إلى داره. لكنه أدرك أنه ارتكب ما يوغر صدر حاكم البلاد الذي قربه وأدناه وجعله من خلصائه، فكان كل ذلك دافعاً لينظم قصيدته الشهيرة "إلى عرفات الله"، يمدح بها الخديوي، ويعتذر له، ويصف شعائر الحج بأبلغ صور البيان.
بعد أربعة عقود، لحّن رياض السنباطي أبياتاً من القصيدة، وشدت بها أم كلثوم، لتصبح الأغنية إحدى العلامات الفنية الكبيرة المرتبطة بيوم عرفة، وشعائر الحج والطواف، وزيارة المدينة المنورة، ولتصبح أيضاً معلماً من معالم الغناء الديني، الذي شدت أم كلثوم بأعظم صوره وأجلها، عبر تلك الشواهق الكبيرة التي أعلى صروحها رياض السنباطي.
جاءت قصيدة أحمد شوقي في 63 بيتاً، كان معظمها في مديح الخديوي، ووصف رحلته إلى مكة والمدينة. وكما هو معتاد، أجرت أم كلثوم ومستشاروها عملية فرز وانتقاء وتعديل وتبديل أسفرت عن 25 بيتاً، كلها تتحدث عن مناسك الحج، والأجواء الروحانية التي يعيشها الحاج في الأراضي المقدسة. حُذفت أبيات المديح الخالص، مثل: "إذا حُدِيَت عيس الملوك فإنسُهم.. لعيسك في البيداء خير حداة".
ثم عدلت بعض الكلمات التي تستثقل في الغناء، مثل: "طهور الساح والعرصات"، التي أمست "طهور الساح والشرفات"، أو التي قد تشير إلى شخص الخديوي، مثل: "إذا زرت يا مولاي قبر محمد"، التي تغيرت إلى "إذا زرت بعد البيت قبر محمد".
هكذا، أصبح النص مختصاً بشعيرة الحج، مع ثلاثة أبيات فقط في أواخر القصيدة تتحدث عن الأحوال السياسية، والتقدم العلمي، وضرورة الاهتمام بالعمل لاستعادة الأمجاد القديمة. لكن بعد الحفل الأول قرّرت أم كلثوم حذف هذه الأبيات الثلاثة من النص المغنى، ويبدو أنها وفريق عملها خلصوا إلى أن الأبيات غير مناسبة للحالة الدينية الروحانية التي تشيعها معاني القصيدة.
نظم أحمد شوقي القصيدة عام 1910، وبويع بإمارة الشعر عام 1927، ورحل عن عالمنا عام 1932 من دون أن يستمع إلى شعره بصوت السيدة، التي أخّرت أول تعاملها مع كلمات شوقي إلى عام 1936، حين شدت بقصيدته في مدح صوتها "سلوا كؤوس الطلا"، مع التغافل عن غنائها قصيدة "عيد الدهر" المعروفة بمطلعها "الملك بين يديك في إقباله"، إذ نظمها أحمد شوقي في مديح السلطان محمد رشاد الخامس، واختارت أم كلثوم أبياتاً منها لتغنيها بمناسبة تولي الملك فاروق عرش مصر، فهي إذن أغنية مناسبة سياسية لا بقاء لها. وحين حان موعد إطلاق "إلى عرفات الله" عام 1951، كانت أم كلثوم قد شدت من قصائد أحمد شوقي "سلوا قلبي" و"نهج البردة" و"النيل" و"ولد الهدى". وكلها كانت من ألحان رياض السنباطي.
تختلف المعالجة النصية التي أجريت لقصيدة "إلى عرفات الله" عن نظائرها من معالجات قصائد أحمد شوقي المغناة. وتمثيلاً، غنت أم كلثوم 30 بيتاً من "نهج البردة"، جاءت انعكاساً لأجزاء القصيدة الثلاثة: الغزل، ولوم النفس، والمديح. لكن في "إلى عرفات الله" أدى الحذف والتبديل إلى تغيير الموضوع الأصلي الذي استغرق نحو ثلثي القصيدة، وهو مدح الخديوي، وتخليد ذكرى رحلته إلى الحج اعتذاراً عن ترك صحبته. استقر النص النهائي أمام رياض السنباطي: قصيدة فصيحة عمودية، من نظم أحمد شوقي موضوعها وجداني يتحدث عن أكبر شعائر الدين الإسلامي. هذا ما يهواه السنباطي ويجيد التعامل معه.
يمكن لهواة تصنيف الأغنيات الطويلة مقامياً أن ينسبوا القصيدة إلى مقام الهزام، إذ به بدأ اللحن وبه انتهى، ويمكن لهواة التحليل النغمي أن يقولوا إن الأبيات الستة الأولى جاءت على مقام الهزام، تلتها خمسة أبيات على مقام البياتي، ثم ثلاثة أبيات بمقام الصبا، فبيتان على البياتي، ثم سبعة أبيات هي آخر القصيدة على مقام الهزام. لا تكشف هذه الطريقة عن متانة الصنعة السنباطية، ولا عن الجماليات المنثورة في تضاعيف اللحن، والتي لا تُحصلها إلا أذن حازت شروط الإنصات والانتباه، وإن لم تحز شرط الدراية الموسيقية النظرية.
والإنصات يكشف عن أن إيقاع المقدمة هو المصمودي الكبير، الذي يُدخل المستمع سريعاً إلى أجواء دينية إنشادية، مع تأخير إيقاع الواحدة الكبيرة المعتاد في القصائد إلى بداية الغناء. كما يكشف عن استهلال لحني هادئ، يتصاعد تدريجياً في تؤدة ووقار وحرص شديد على متانة البناء التي تتضح معالمها مبكراً من قوة اللوازم الموسيقية. ثم يكون أول تجلياتها في المقطع المكون من البيتين السادس والسابع، فقوله: "وزمزم تجري بين عينيك أعينا.. من الكوثر المعسول منفجرات" يأتي على مقام الهزام، ثم يأتي قوله: "لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم.. لبيت طهور الساح والشرفات" بمقام البياتي.
جاءت هذه القفلة البياتية واللازمة بعدها تمهيداً للبدء بالمقام نفسه من طبقة أعلى مع قوله: "أرى الناس أفواجاً ومن كل بقعة.. إليك انتهوا من غربة وشتات"، وكان هذا التصعيد بليغاً في خلق شعور بالارتفاع، والنظر من مكان أعلى يسمح بمشاهدة جموع الحجيج.
حين يدخل اللحن إلى الجزء الأخير، المكون من سبعة أبيات تتحدث عن زيارة قبر النبي محمد، يعود السنباطي إلى مقام الهزام، فيحوز فضيلتين: الأولى، هي التغيير بعد تسعة أبيات من البياتي والصبا، وهو تغيير منطقي يوجبه الانتقال من مكة إلى المدينة، ومن البيت الحرام إلى المسجد النبوي، والأخيرة هي إقفال القصيدة بالمقام الذي استهلت به، إعمالاً لقواعد موروثة ومستقرة، وترسيخاً لقوة البناء ومتانة السبك.
يبدأ هذا المقطع من أول كلمة بأسلوب التوتير اللحني: "إذا زرت بعد البيت قبر محمد"، ويستمر التوتير الذي يعطي شعوراً بخفقان القلب واضطرابه مع اقتراب الزائر من القبر النبوي، ثم تأتي الانفراجة التي تمنح شعور الارتياح مع وصول الزائر إلى "المواجهة الشريفة": "فقل لرسول الله يا خير مرسل.. أبثك ما تدري من الحسرات".
خلال عقود، كثر الحديث عن التعبير اللحني حتى بلغ حد الابتذال، وضُربت له أمثلة في غاية الركاكة، ما دفع بعض من يكتبون في الشأن الموسيقي إلى تجنب هذه الزاوية، التي أمست غير لائقة إلا بالهواة على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن لا ريب في أن السنباطي قدّم إلى هذه القصيدة لحناً متناسباً مع المعاني العامة للنص، ونجح أيضاً في خلق موسيقى متناسبة مع كل مقطع.
ولن يحتاج المستمع إلى جهد كبير ليدرك أن زائر القبر النبوي قد خفض صوته وهو يبث شكواه إلى الرسول: "شعوبك في شرق البلاد وغربها.. كأصحاب كهف في عميق سبات"، وخفض الصوت من أهم آداب الزيارة. كما سنحت للسنباطي فرصة لم يفلتها ليعبر عن معنى "السُّبات"، لتصدر اللفظة في حالة من الاسترخاء الناعس.
ثم جاء دور أم كلثوم التي يمنح صوتها القصائد الحسان معاني فوق معانيها، ويهب الألحان أكبر أسباب خلودها وانتشارها. أطلقت سيدة الطرب قصيدتها في ديسمبر/كانون الأول عام 1951، بين جمهورها المحتشد في سينما راديو بوسط القاهرة. انساب صوتها في جلال واستغراق آسر: "إلى عرفات الله يا خير زائر.. عليك سلام الله في عرفات". سخرت طاقتها الصوتية الهائلة، وقدراتها التعبيرية المعجزة، لتقدم غناء من يعايش المناسك في لحظته.
ومن مواضع غنائها الجديرة بالانتباه، أداؤها البيتين: "ويا رب هل تغني عن العبد حجة.. وفي العمر ما فيه من الهفوات.. وتشهد ما آذيت نفسها ولم أضر.. ولم أبغ في جهري ولا خطرات". تكاد تذوب رقة ووهناً في الأول، ثم ما تلبث أن تتفجر بالقوة والعنفوان في الثاني.
تتواطأ المصادر على أن المطربة نجاة علي، غنت 14 بيتاً من القصيدة عام 1949، وسجلتها للإذاعة بألحان السكندري المخضرم عبد الفتاح بدير. وأن أم كلثوم حين أرادت أن تسجل القصيدة للإذاعة -وكانت حينها نقيبة الموسيقيين- احتاجت إذن صديقتها نجاة علي فأذنت لها. لكن الزمن لم يأذن إلا ببقاء لحن السنباطي بصوت أم كلثوم. في أوائل الستينيات، ومع انطلاق التلفزيون المصري، سجلت أم كلثوم الأغنية مصورة، بتقنية التزامن الشفاهي (LIP SYNC)، مع اختصار للنسخة الإذاعية التي سجلتها أوائل الخمسينيات.
والهواة وجامعو تراث السيدة يحرصون على سماع الأغنية من تسجيلاتها المحفلية الثلاثة المتاحة في المواقع الموسيقية: محفل سينما راديو، للمرة الأولى عام 1951، وهو مشتهر بمحفل المزاهر، فقد استعان السنباطي فيه بعدد من ضاربي الدفوف، ولم تتكرر التجربة في المحافل اللاحقة، والثاني بمسرح حديقة الأزبكية في إبريل/نيسان 1955، والثالث والأخير بدار سينما قصر النيل في يوليو/تموز 1957.
هرب أحمد شوقي من رحلة الحج بمصاحبة الخديوي، فكتب قصيدته معتذراً، ومارس رياض السنباطي هوايته مع قصيدة عمودية دينية، وشدت مطربة العرب الكبرى، هكذا جاء ذلك العمل الأيقوني الخالد، الذي تستعيده الإذاعات والتلفزيونات العربية مع كل موسم حج، وكل وقفة بعرفة، وكل عيد أضحى: عليك سلام الله في عرفات.