أحمد المعنوني (2/ 2): أهتمّ بالمونتاج والدور السرديّ للصوت ثراءٌ حقيقيّ

28 ابريل 2021
المعنوني وسكورسيزي وسليمان سيسي في "كانّ" 2007 (غاريث كاتّرمول/ Getty)
+ الخط -

في الحلقة الثانية من حواره مع "العربي الجديد"، بعد أولى منشورة في 26 أبريل 2021، يُكمِل المغربيّ أحمد المعنوني قراءته لسيرة فيلمه "الحال"، الذي يحتفل الآن بمرور 40 عاماً على إنجازه.

(*) ساعد التصوير بكاميرات عدّة في تحديد ديناميكية مشاهد الحفلات الموسيقية: أخمّن مثلاً في التأثير الخلاّق للّقطة حين تتوالى صُور العربي باطما، المأخوذة من زاويتين مختلفتين. كيف قمت بتقسيم المهام بين الفريق، لخلق انسجام بين صُور التُقطت بأيدٍ عدّة، بما فيها يدك؟ خاصة أنّ الأفلمة حاسمةٌ في ترسيخ الجانب التجريبي للفيلم (التركيز على لقطات مقرّبة للوجوه، عدم الخوف من تأطير مصابيح الإضاءة، إلخ.).

أستطيع القول إنّ "الحال" ما كان ليرى النور لو لم أسهر على الاعتناء بالصورة، وأتحمّل بنفسي مسؤولية الكاميرا. كان ضرورياً العملُ في فريق صغير، تمّ تقليصه إلى أقلّ عدد ممكن من الأشخاص، بسبب محدودية وسائل الإنتاج.

أستمتع دائماً بتكوين إطارات الصُور، وأداء حركات الكاميرا، وخلق ديناميكية انطلاقاً من تباينات الضوء. سريعاً، يُصبح شغلي الشاغل، كتقني تصوير، العثور على توليفة من الإضاءة والإطار وحركة الكاميرا، بغية ترجمة وجهة نظرٍ وأحاسيس انطلاقاً مما أصوّر. تمّ التصوير في فترات متقطعة. ثلاث حفلات رئيسية صوّرناها في قرطاج وباريس وأغادير. تلاها تصوير وسط ديكورات طبيعية في الدار البيضاء (الحي محمدي والمدينة القديمة ومنطقة الحبوس)، ثم في الصويرة ومنطقة أولاد تيما. أخيراً في استوديوهات في باريس.

لتصوير حفلتي أكادير وباريس، كان عليّ استخدام كاميرات عدّة. لذا، دعوت أخصائيّين وافقوا، بمنتهى الودّ والصداقة، على تعزيز فريق التصوير، كمديرَي التصوير محمد عبد الرحمن التازي وعبد الكريم الدقاوي. كتبتُ تقسيمة حركات بناءً على الأغاني ـ نوع من التقطيع الفنّي ـ لكلّ كاميرا. تتبّع أحد المساعدين، الموجود إلى جانب كلّ مُصور، التقسيمة، وإعطاء الإشارة بموعد تغيير محور الكاميرا. كنتُ أحتفظ في رأسي بتقطيع الكاميرا الخاصة بي على المسرح. كان الأمر دقيقاً جداً، اشتغل بشكل جيّد بفضل الاعتماد على إيقاع الموسيقى.

 

(*) هل هناك ذكرى معينة، أو حكاية بقيت عالقةً في ذهنك من فترة التصوير؟

ترك المشهد المخصّص لروح الفقيد بوجميع ذكرى خاصّة في وجداني، وبرهاناً على قوّة الذاكرة التي تفرض نفسها في كلّ الظروف. لن أنساه أبداً. تدور الخطوط العريضة للمشهد حول استحضار الصديق الذي غادر باكراً. وضعتُ الثلاثي العربي باطما وعلاّل يعلى وعمر السيد، كلٌ في مكانه حولي. منذ البداية، أثناء ما كان يُفترض به أنْ يكون أوّل محاولة لتصوير المشهد، أغمض العربي عينيه، وشرع في غناء موّال "من المحال" بصوته الجميل الدافئ، من دون موسيقى (آكابيلا). لم يكن هذا مُخطّطاً. صوّرت المشهد من دون تمرين. كانت كاميرتي تنتقل بسعادة بين الثلاثي، محمولةً على إيقاع الاستحضار، ومرسّخة أكثر حضور ذكرى الصديق الفقيد.

إنّها العبقرية الغيوانية! هذه لحظة فريدة، مطبوعة بالنّعمة والرواء. لم نقم بعدها بأي محاولة أخرى. السرّ كلّه كان يكمن في طريقة تحضير المشهد.

 

 

(*) "الحال" مطبوع بأسلوب "سينما الحقيقة". كذلك تأثير الموجة الجديدة، الفكرة الغودارية المتمثّلة في تراكب أشرطة الصوت، كما في المشهد الاستثنائي، حيث نسمع خليطاً من صوت العربي باطما وهو يروي خرافة "عائشة قنديشة"، فوق موال من أداء عمر السيد، ثم أصوات من أرشيف الاستعمار.

أعلّق أهمية خاصة على عمل المونتاج. الدور السردي للصوت يمثّل ثراءً حقيقياً، اعتمدت عليه كثيراً في عملي، خاصة في "الحال". يلزم إجراء تحليل دقيق لهذا المشهد الشبيه بالحلم، لاستكشاف التداخلات المتعدّدة للتقنيات المختلفة التي استخدمتها فيه. يعزّز هذا المشهد من فهمنا لسعي العربي باطما، ويضعنا في قلب مخيلته بنوع من الرقة، بشكل غير مقحم. هناك حتى جرعة صغيرة من السخرية من الذات في نبرة المشهد.

 

(*) ما كان منهجك في العمل مع المكلَّف بالمونتاج، جان كلود بونفانتي؟

باستثناء الحفلات الموسيقية، صوّرتُ عدداً قليلاً نسبياً من المحاولات لكلّ لقطة، لأنّي كنتُ أعمل وفق استراتيجية اقتصاد. مساهمة جان كلود بونفانتي، الفنية والتقنية، حاسمة في تجسيد رؤيتي على الواقع، وتجويد اختياراتي الجمالية. عضدني في جنوحي إلى الحرية في الشكل، وسمح لي بتحقيق ذلك المزيج الدقيق والأصلي بين الموسيقى والسرد، الذي جعل "الحال" عملاً متجذّراً في الحرية.

 

(*) هناك جانب ما ورائي ("ميتا") صريح في سرد الفيلم: لحظة توجه عمر سيد مباشرة إلى الكاميرا، أو عندما يتحدث معك العربي باطما لتبرير اختياراته كفنان. كيف خطّطت لالتقاط هذه اللحظات؟ هل قمت بتمارين قبل التقاطها؟ إلى أي مدى أفدت من الخلفية المسرحية للمجموعة؟

كان المسرح شغفي الأول، ولا يزال. من خلال ممارسة المسرح، انجذبت بشكل طبيعي إلى العرض السينمائي. اللقطات التي يتحدث فيها أعضاء "ناس الغيوان" إلى الكاميرا تجد منبعها في الكوميديا ديلارتي "لازّي". تم التمرّن على كلّ شيء بشكل دقيق ومفصّل.

 

(*) تلعب اللقطات الأرشيفية دوراً مُهماً في صوغ خطاب الفيلم، خاصة في جانبه السياسي، بفضل الطريقة شبه الذهنية التي تستدعيها بها في الحكي أحياناً (الانتقال بين الفتاة المنغمسة في الرقص إلى درجة الغشية، وصُوَر النساء المتأثّرات بوفاة محمد الخامس حدّ الإغماء)، والحسّية أحياناً أخرى (كما في اللحظة السحرية عندما تُعلّق زمن الحفلة الموسيقية لتكريم الراحل بوجميع، عبر لقطات من عرض مسرحي). ما هي انعكاسات تضمين لقطات أرشيفية للفيلم على عملية الإنتاج والسيرورة الفنية؟

في البدء، هناك صُور ذهنية تنطبع في ذاكرتنا، وتصبح بطريقة ما مكوّنة لمخزوننا التخيّلي. إحدى أقوى هذه الصُوَر تتمثّل في جنازة محمد الخامس. كانت مُدهشة بالنسبة إليّ. لا يمكنني نسيانها. ارتباطها بالجمهور الشاب لـ"ناس الغيوان" وثيق الصلة بحكم تشابه طابعها الباطني، وعمق الصدى الذي تتركه وراءها.

 

 

(*) اللقاء مع مارتن سكورسيزي حاسمٌ في الشهرة العالمية التي اكتسبها الفيلم، منذ ترميمه برعاية "مؤسّسة السينما العالمية" عام 2007، إلى الإعلان عن إصداره في شكل منفرد، وإتاحته على منصّة "كرايتيريون" في مايو/ أيار المقبل. كيف تلقّيت هذا الإعلان، الذي يصادف الذكرى الأربعين للفيلم؟

قصة رائعة جمعت الفيلم بمارتن سكورسيزي، الذي شاهده وتأثّر به دائماً. وفاءً لمشاعره، قرّر ـ بعد 26 عاماً على هذا الاكتشاف ـ أنْ يفتتح "الحال" مشروع "مؤسّسة السينما العالمية" في "كلاسيكيات كانّ"، في دورة عام 2007 لمهرجان "كانّ". يقول في هذا الشأن: "في بداية الثمانينيات، صادفتُ ـ بشكل أو بآخر ـ فيلماً وثائقياً بعنوان "الحال"، للمخرج المغربي أحمد المعنوني، حول فرقة "ناس الغيوان". لم يسبق لي أنْ سمعت قطّ بالفيلم أو الفرقة قبل ذلك. فوراً، افتُتنت بكليهما. أعتقد أنّ أسلوب إخراج الفيلم جميلٌ للغاية. كان ذلك هاجساً لي منذ عام 1981. لهذا السبب، افتتحنا مشروع المؤسسة به (الحال)".

تقديرٌ رائع من هذا العملاق السينمائي، بمثابة "أوسكار" حقيقي للفيلم. أنا ممتنٌّ للغاية لسكورسيزي على سخائه ودعمه، ما سمح لـ"الحال" بالتواصل مع جماهير من أنحاء العالم. مهّد طريقاً ملكيةً للفيلم، لعرضه في القارات الخمس، ما جعله الفيلم المغربي الأكثر عرضاً في العالم، والأكثر مُشاهدةً من دون انقطاع، منذ 40 عاماً. فتحت أعرق مجموعات الأفلام أبوابها أمامه، وآخرها "الكريتوريون" في نيويورك، التي عنونت أنّ الفيلم "شعر سينمائي خالص". أما "أوريكا ماسترز أوف سينما"، في لندن، فكتبت: "وفياً لعنوانه، "الحال" تحفةٌ سينمائية ذات تأثير ساحر ومحمِّس".

 

(*) ما هي أقرب الجوائز إلى قلبك، من بين تلك التي توّج بها الفيلم منذ صدوره؟

حاز "الحال" جوائز عدّة في القارات كلّها. الجائزة التي تؤثّر فيّ بشكل خاص تلك الممنوحة من الجمهور، لأنّها تؤكّد الصلة الحيّة بين العمل وجمهوره. من الجوائز التي أحرص عليها أيضاً، أذكر الجائزة الأولى "إيسيك" (جائزة "المدرسة العليا للدراسات السينمائية"، الممنوحة لمحترفي السينما "مكافأة لمساهماتهم القيمة في الفنّ السينمائي" ـ المحرّر)، التي مُنحت للمرّة الأولى في مهرجان "كانّ" عام 1981. من الفائزين بها في أعوامٍ تالية، هناك أورسون ويلز و"دفاتر السينما".

 

(*) كيف تقيّم الإبداع الوثائقي في المغرب اليوم؟ ما هي بنظرك عقباته وفرصه؟

لدينا المواهب اللازمة للانبراء بحرية لتراثنا وأبطالنا في أفلامنا الوثائقية، من أجل الصالح العام لجمهورنا، الذي يحتاج إلى هذا. تكمن الصعوبة في النقص الحاصل ـ على مستوى التربية ـ على الصورة اللازمة منذ سنّ باكرة، للتمكّن من رفع مستوى التّطلب الفني. ينبغي تنمية الفضول والذوق الفني. من دون هذا، لن تكون الأعمال المحيطة بنا قادرة على تغذيتنا. في غياب هذا الزاد المعرفي والجمالي، نجازف في أنْ نصبح "صورة ظلية" للمغاربة، جوفاء من الداخل ومن دون سُمْكٍ، ولن يكون لدينا ما نشاركه مع الآخرين. للفيلم الوثائقي دور أساسي في إقامة صلة "المعنى" بيننا. إنّه حلقة وصل لا غنى عنها، أكثر من أيّ وقت مضى.

 

(*) ما هي النصيحة التي يُمكن أنْ تُقدّمها للمخرجين الشباب، الذين يُمارسون (بعددٍ آخذٍ في الازدياد) إخراج الأفلام الوثائقية؟

أنْ تكون لديهم وجهة نظر، وأنْ يلتزمونها، ويسعون إلى مشاركتها من دون براهنية أو تلاعب. أنْ يتوجّهوا إلى ذكاء المُشاهد. المهمّة جسيمة، لأنّها تقتضي النجاح في الانتقال من طور الجهل إلى مرحلة الخبرة، في وقتٍ قصير جداً. المدرسة الوثائقية مدرسة ذات معايير عالية ومتطلّبة، على طريق المعرفة والتواضع أمام الموضوع، عكس الروائية، حيث يُمكن للمخرج أنْ يتقمّص دور المتسيّد على الأحداث.

المساهمون