استعادت الكنيسة القبطية، في السادس من الشهر الحالي، عالم الآثار الألماني كارل كوفمان (1872-1951) الذي يعود له الفضل في إعادة اكتشاف مدينة أبو مينا سنة 1905 التي كانت أكبر المزارات المسيحية منذ القرن الرابع الميلادي، وعرفت في كتابات الغربيين باسم "المدينة الرخامية" أو "ميناس".
في الوقت نفسه، أعلنت وزارة الآثار أن أعمال السيطرة على المياه الجوفية التي تهدد المنطقة الأثرية أوشكت على الانتهاء، بعد عمل استغرق قرابة أربع سنوات، بعد توصية من "يونسكو" التي تضع أبو مينا على قائمة التراث العالمي منذ سنة 1979.
أصل المدينة
تنسب المدينة إلى القديس مينا الذي كان جندياً مسيحياً في الجيش الروماني، لكنه فرّ من الخدمة، اعتراضاً على اضطهاد المسيحيين في آسيا الصغرى زمن الإمبراطور دقلديانوس. وبسبب ذلك، صدر الأمر بقطع رأسه. وبعد انتهاء زمن الاضطهاد، نقلت أخته جسده إلى كنيسة في الإسكندرية. وتقول الرواية المتداولة، إن بابا الإسكندرية جاءته رؤية بأن يُحمل جثمان القديس على جمل ليعاد دفنه للمرة الثالثة بالقرب من بحيرة مريوط، وفي نقطة محددة رفض الجمل مواصلة السير، فكان ذلك علامة على ضرورة دفن الجثمان عند هذه البقعة بالتحديد. بعد فترة طويلة، تنبه أحد رعاة الأغنام لبركة المكان الذي يوجد فيه قبر القديس مينا من طريق المصادفة، فقد كانت إحدى غنماته مصابة بمرض جلدي، لكنها شفيت في الحال حين غمست نفسها في مياه النبع المجاور للقبر. بعد ذلك، انتشر خبر النبع الشافي، فتوافد عليه المرضى من كل مكان، وبلغ الخبرُ الإمبراطورَ قسطنطين الأول، فأرسل ابنته للاستشفاء، وأمر ببناء كنيسة في الموقع بين عامي 320 و325.
وبحلول أواخر القرن الرابع الميلادي، أصبحت الكنيسة والمنطقة أهم مزار مسيحي، ثم حدثت عدة توسعات للكنيسة بدأت بعصر الإمبراطور أركاديوس.
في الموقع الآن كنيسة المدفن المشيد فوق مقبرة القديس مينا التي هبطت إلى تحت الأرض مع مرور الوقت، ثم بُنيت المقبرة لاحقاً على شكل بناء مفتوح فيه أربعة أعمدة، وللمقبرة سلّم للنزول وآخر للصعود، وفي الوسط قاعة مربعة الشكل تحملها الأعمدة، وتشكل المباني الموجودة في الموقع مجمعاً كبيراً من ثلاثة أبنية منفردة ومتصل بعضها ببعض، هي كنيسة البازيليكا الكبرى وكنيسة المدفن وكنيسة المعمودية. وكنيسة البازيليكا هي الأضخم بين الكنائس الثلاث، وتعود إلى القرن السادس الميلادي. أما كنيسة المعمودية، فهي عبارة عن بهوين كبيرين مزينين بالأعمدة الثُّمانية الشكل، وفيها حوض المعمودية ومكان يفصل بين الرجال والنساء عند التعميد.
وكان محمد على باشا (1805 – 1848) قد أمر بهدم أطلال الكنائس والأبنية في ذلك المكان الذي أصبح مهجوراً، واتخذه اللصوص أوكاراً لهم، ثم عصفت الطبيعة بما بقي من المدينة لتجعلها أكواماً من التراب والحجارة.
وبعد إعادة اكتشاف المكان، واعتماد الحكومة المصرية له ضمن الأماكن الأثرية سنة 1956، وضع الأنبا كيرلس في 1959 الحجر الأساس لدير مار مينا العجائبي الذي يُعَدّ أبرز معالم المنطقة الآن.
المستكشف وابن عمه
كانت أبو مينا محظوظة بفشل رحلة كوفمان الاستكشافية إلى برقة بسبب سوء الأحوال السياسية والأمنية، فكانت عملية التنقيب في مصر خطته البديلة. لم يدوّن كوفمان تفاصيل الاكتشاف، ولكنه لحسن الحظ اصطحب معه ابن عمه إيفالد فالس الذي دوّن تفاصيل هذه الرحلة المهمة في كتابه "ثلاث سنوات في صحراء أولاد علي"، ونقله أخيراً إلى العربية أماني فايز وعاطف معتمد، والمؤلف رحالة له إنجازات ثقافية استشراقية مثل كتابه "أغاني البدو" الذي أنجزه سنة 1907.
ويقول الباحث عاطف معتمد إن البطل الرئيسي في هذا الاكتشاف هم بدو أولاد علي، والمؤلف نفسه لا ينكر ذلك، بل كان الإلهام البدوي مؤثراً، ليس فقط في الوصول إلى المكتشفات الأثرية للمدينة، بل في تخصيص أكثر من نصف الكتاب عن أحوالهم الثقافية والاجتماعية والدينية.
القوارير المقدسة
كان كوفمان على علم بوجود قوارير أثرية مدفونة في ذلك المكان تُسمى قوارير ميناس، واعتبرها دليله للوصول إلى أبو مينا. كانت القوارير تُباع للحجاج للتبرك بها، إضافة إلى حاويات لبيع الماء المقدس المأخوذ من النبع، والزيت المستخرج من أشجار البقعة المقدسة، ووجدوا الأيقونات المشهورة التي تصور القديس مينا واقفاً بين جملين، وهذه المنتجات كانت رائجة بصورة كبيرة قبل الفتح الإسلامي لمصر. ويحكي إيفالد فالس كيف عثرا على كمٍّ ضخم من هذه الآثار الثمينة، وكيف تعاملوا معها؛ إذ يمكن اعتبار كوفمان ضمن قائمة اللصوص التاريخيين للآثار المصرية، فقد أرسل إلى ألمانيا 100 صندوق من الحجم الكبير مملوءة بقطع أثرية من أبو مينا، وهي القطع المحفوظة حالياً في متحف في مدينة فرانكفورت الألمانية.