يُعتبر آرون سوركين (1961) السيناريست الأكثر نجومية وشهرة في هوليوود، في الأعوام الـ10 الأخيرة، على الأقل. لا يتعلّق هذا بجودته ككاتب، أو بنجاح أفلامه، وأهمّها "بضعة رجال طيبين" (A Few Good Men)، الذي أخرجه روب راينر عام 1992، و"الشبكة الاجتماعية" (The social Network)، الذي أخرجه ديفيد فينشر عام 2010، بل بالـ"بصمة"، قبل أي شيء آخر، فهو أحد الكتّاب القلائل جداً، الذين يُمكن معرفة أفلامهم من دون أنْ يخبر أحدٌ عنها.
تشتهر أفلام سوركين بالحوار، وبالشخصيات الذكية الأخّاذة والفعّالة، التي تدخل في محاورات طويلة، وتحاول الانتصار فيها كأنّها حرب كلامية.
يُعرَف عنه أيضاً حبّه لاقتباس القصص الحقيقية، عن شخصياتٍ مؤثّرة وناجحة، ولها عيوبها في الوقت نفسه، كستيف جوبز ومارك زوكربيرغ. ومع قراره ببدء مسيرته الإخراجية، احتفظ بكلّ ما يميّزه كسيناريست، مُضيفاً المزيد من التداخل الزمني، والإيقاع اللاهث، والمونتاج السريع، الذي يجعل حواراته المميّزة أكثر جنوناً وحدّة. فعل هذا بجودة مقبولة في "لعبة مولّي" (Molly’s Game) عام 2017، وبدا أقوى وأكثر تمكّناً في عمله الثاني كمخرج، The Trial Of The Chicago 7، المُنجز عام 2020.
يتناول جديد سوركين هذا (نتفليكس) واقعة مهمّة في التاريخ الأميركي الحديث: محاكمة 7 نشطاء سياسيين يساريين، على خلفية مظاهرة ضد حرب فييتنام عام 1968، أمام مؤتمر للحزب الديمقراطي. يستعرض شخصياتهم المختلفة، وموقعهم السياسي (على اختلاف حدّته وراديكاليته وأسلوبه) من الأحداث، والصدام مع السلطة، بشقّيها البوليسي والقضائي، في تلك اللحظة الزمنية الصعبة.
سياسياً ومُجتمعياً، هناك أهمية للفيلم في لحظةٍ زمنية تعيشها الولايات المتحدة الأميركية: صعود غير مسبوق للتيار اليميني. حتّى مع خسارة دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية (3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020)، هناك واقعٌ مفاده أنّ 74 مليون أميركي انتخبوه، وهذا يُعبّر عن حدّة اللحظة وانفجارها وخطورتها.
آرون سوركين يساري التوجّه والأفكار، ومع الحريات، وضدّ العنصرية واضطهاد فئات مجتمعية بناءً على لونها أو أصولها أو ميولها الجنسية. في فيلمه هذا، يستحضر لحظة تاريخية مهمّة، مسقطاً إياها على الحاضر، للتعبير عن مكانه إزاء هذا الصراع، وعن أي أميركا يُريدها، وعن خطورةٍ يراها في كلّ ما يحدث.
يصوّر صعود اليمين في الولايات المتحدة قديماً وحديثاً
فنياً، يحدث هذا بشكل مميّز جداً. سوركين يعشق إيقاعاً لا يتوقف، وشخصيات تتحدّث، وزمن يتداخل بين حوار و"فلاش ـ باك" سريع. يكاد المتفرّج ألّا يلتقط نَفَسه منذ أول ثانية. فعلها في أفلامه كلّها كسيناريست، وفي "لعبة مولي" كمخرج.
لكنْ، ما يُميّزه هنا، عن "لعبة مولي" تحديداً، أكثر من شيء، يتمثّل بـ:
أولاً، هناك تنوّع في الشخصيات، ومنطقها ومكانها في لحظة المظاهرة المحورية، التي يدور الفيلم حولها، ما يمنح العمل حيوية في كلّ لحظة.
ثانياً، الفيلم دراميّ وتاريخي، لكنّه أيضاً فيلم إثارة. هناك حدث يُتابَع كلّ لحظة، وهناك حقائق تتغيّر ومعضلات لا يُعرف كيف سيتجاوزها المحامون والشخصيات.
ثالثاً، غالبية الأحداث تجري في المحكمة، وهذا يعشقه سوركين، بناءً على أفلامه السابقة، وتحديداً "بضعة رجال طيبين". في جديده، يأخذ هذا خطوةً أبعد وأكثر حِدّة.
يتميز آرون سوركين كذلك في تكوين الشخصيات والاختلافات بينها. هناك شيء مُبهر في الكتابة، إذْ يجري التعامل مع ما لا يقلّ عن 11 شخصية أساسية، من المتّهمين السبعة، والمتّهم الثامن المُضاف إلى القضية لسببٍ عنصري، والمحامي والقاضي والمدّعي العام. مع هذا، وبفضل مهارته، يعرفهم المُشاهد ويُميّزهم جيداً، بعد مرور وقت قليل على البداية. هذا صعبٌ جداً، خصوصاً مع الخيار الفني للتداخلات الزمنية بين المَشاهد.
صحيحٌ أنّ ما يعيبه قليلاً أحادية بعض الشخصيات، خصوصاً القاضي، والانحياز المتطرّف لسوركين إلى "مع" أو "ضد" بالنسبة إلى بعض أبطاله، أكثر من أي سيناريو سابق له. لكنّ هذا مقبولٌ ضمن انحيازات الفيلم عامةً، ولأنّ العالم الذي عرف القصّة الحقيقية عام 1968 منحاز وعنصري ومتطرّف.
مجدّداً يؤكّد آرون سوركين قيمته كسيناريست ذي بصمة استثنائية، إلى كونه مخرجاً قابلاً للتطوّر والإمساك بأدواته السينمائية أكثر فأكثر
هذا مقبول أيضاً بفضل الأداء الممتاز للممثلين جميعهم، خصوصاً مارك ريلانس في دور المحامي ويليام كانسلر، وساشا بارون كوهين في دور الكوميديان الأناركي آبي هوفمان، وفرانك لانغيلا، الذي يملأ شخصية القاضي جوليوس هوفمان حضوراً وتأثيراً، رغم وجهه الأوحد.
مجدّداً، يؤكّد آرون سوركين قيمته كسيناريست ذي بصمة استثنائية، إلى كونه مخرجاً قابلاً للتطوّر والإمساك بأدواته السينمائية أكثر فأكثر.
غالباً، سيكون لـ"محاكمة 7 شيكاغو" حضور كبير في الحفلة الـ93 لجوائز "أوسكار"، في 25 إبريل/ نيسان 2021، خصوصاً في فئات السيناريو الأصلي والتمثيل والمونتاج (آلان باومغارتن)، وربما الإخراج.