"200 متر"... سرد المعاناة من دون شعارات خشبيّة

14 يونيو 2021
يروي الشريط السينمائي معاناة الفلسطينيين على المعابر من دون ادعاءات (تويتر)
+ الخط -

كيف لعائلة أن تتفرق بين ضفتي جدار؟ هذا ما فعله الاحتلال الإسرائيلي على مدى سنوات ببناء الجدار العازل الذي يفصل بين الضفة الغربية وأراضي الـ 48، لينجز عن هذه الفكرة عشرات الأفلام السينمائية الفلسطينية، وفي كل فيلم يقدّم تأتي الحكاية بروحٍ ثورية جديدة وكأنّها تروى للمرة الأولى.

هكذا اختار المخرج الفلسطيني، أمين نايفة، العمل على فيلمه "200 متر" والذي تمكّن من الوصول إلى "مهرجان البندقية السينمائي" العام الفائت، ونيل جائزة الجمهور رغم الآثار السلبية لفيروس كورونا على صناعة السينما والمهرجانات عالمياً، ليتعثر الفيلم في الوصول إلى عروض جماهيرية واسعة، كما كانت تسنح الفرصة لغيره قبل انتشار الفيروس. ومع ذلك أصرّت منتجة الفيلم مي عودة وفريق العمل على تواجد الفيلم في أوروبا، رغم عدم قدرة الأبطال على التواجد والحضور.

وفي المنطقة العربية حظي الفيلم بعدة عروض مهمة كان آخرها في مدينة رام الله، وسط تفاعل كبير من الحاضرين، كما أدرجته سينما "متروبوليس" في لبنان ضمن قائمة عروض تظاهرتها السينمائية "القدس في القلب".

يروي الفيلم قصة "مصطفى" وهو رجل متزوج لديه ثلاثة أطفال يرفض الحصول على الهوية الإسرائيلية، ما يمنعه من التواجد مع عائلته بشكل مستمر في الجانب الآخر من الجدار، أي الأراضي التابعة لحكومة الاحتلال، حيث تتواجد زوجته "سلوى" وتعمل في صالون تجميل لتربي أطفاله الثلاثة، أما "مصطفى" فيقيم مع والدته في الضفة الغربية ويفصله فقط عن منزل أطفاله 200 متر، فيتواصل معهم ليلاً عبر إضاءة مصباح الغرفة وإطفائه. الطريقة الوحيدة لعبور "مصطفى" الجدار هي استصدار تصريح عمل في أراضي الاحتلال، ومن هنا تبدأ المعاناة التي صورها نايفة بطريقة بصرية مذهلة، عبر عرض ملامح الطابور البشري على المعبر والأسلاك الشائكة والإضاءة المعتمة وطريقة التفتيش التي تذّل الفلسطيني للحصول على إذن المرور. ولكنّ حدثاً طارئ يمنع "مصطفى" من القدرة على العبور بشكل نظامي فيضطر للبحث عن طريق للتهريب، لتتحول الحافلة التي يستقلها للتهريب إلى نموذج مصغر عن أحلام الفلسطينيين المرهونة للمجهول، وسط تصوير نفسي بالغ الأهمية لحالة الرعب التي يعشيها أبناء الأرض المحتلة على حواجز التفتيش، بما في ذلك من إرهاب نفسي وإقصاء واضح للفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وغزة، ومنعهم من دخول الأراضي التي يسيطر عليها الاحتلال.

موسيقى فرج سليمان، الفنان الفلسطيني الشهير، صنعت خلفية عاطفية للحدث دون إرهاق لمشاعر المشاهدين، وسط دوامة واسعة من الأحاسيس المختلطة التي يعيشها أبناء المنطقة، ويتقاسمون فيما بينهم شكل الهموم ذاتها وطبيعة تعقيدات الحياة، فليست هي لعنة الجغرافيا والتاريخ بقدر الأوجاع المشتركة التي لا يستطيع من هاجم خارج المنطقة فهم تداخلها والتراكب المعقد فيما بينها. فلا تستغرب حين تلمح في مشهد من الفيلم أنّ سائق الميكروباص يستمع وبصوت عالٍ إلى حازم الصدير يغني "شعراتا ولو" في دلالة على التداخل الواسع في المزاج الشعبي بين سورية ولبنان وفلسطين، كذلك ستلمح تأثر الجيل الجديد من الأطفال وحتى اليافعين بظاهرة كرة القدم المصري محمد صلاح.

وبأداءٍ منضبط لكلّ ممثلٍ في موقعه الصحيح، وتبنٍ استثنائي من قبل بطل الفيلم علي سليمان للحكاية من المشهد الأول حتى الأخير، يروي الشريط السينمائي معاناة الفلسطينيين على المعابر من دون ادعاء أو شعارات خشبية، فهنا تحترف الصنعة السينمائية بنائها بالابتعاد عن التنظير والتوجيه المباشر السطحي إلى رسم دائرة من العلاقات الإنسانية قصيرة وطويلة الأمد بحسب إيقاع الفيلم، ليغدو الممثل وليد لحظته الراهنة في انفعالاته وأحاسيسه ولغة جسده. ويصبح الهمّ اللحظي جزءاً في لوحة الهموم الكبرى، فلولا الجدار لما كانت مئتا متر تحتاج كل هذه المعاناة والهرب والسير على حواف الموت.

يذكر أن الفيلم أنتج بشراكة بين "عودة للأفلام" وعدة جهات أخرى، أبرزها شركة "ميتافورا للإنتاج الفني"، وهي إحدى شركات مجموعة "فضاءات ميديا". 

المساهمون