"مهرجان برلين للموسيقى"... افتتاح تراجيدي

04 سبتمبر 2022
جانب من عرض الافتتاح (فابيان شيلهورن)
+ الخط -

حين همّ مُنظّم مهرجان برلين للموسيقى (Das Musikfest Berlin) فينريش هوب (Winrich Hopp)، باعتلاء مسرح القاعة الفيلهارمونية الشهيرة، ليُلقي كلمته بمناسبة افتتاح دورة العام الحالي (انطلقت في 28 أغسطس/آب الماضي، وتتواصل حتى 19 من سبتمبر/أيلول الحالي)، وجد بالكاد لقدميه موطئاً، نظراً إلى اكتظاظ الخشبة بأعضاء أوركسترا "كونسرت خيباو" الهولندية، التي تُعد من أفضل الفرق السيمفونية في العالم، ومقرّها أمستردام.

لقد جعل هوب من المشهد مُقدمةً لكلمته الافتتاحية، تناهت ارتجالية. فاعتبر امتلاء المسرح بالعازفات والعازفين، متلاصقين كاملي العدّة والعتاد، إيذاناً ببدء عودة الحياة إلى سابق عهدها، قبل جائحة كورونا العالمية وتحوّراتها المتتابعة على مدى أكثر من عامين، وتعطّلت بسببها الحياة، وتغيّرت بموجبها أنماط العيش.

ليست جموع العازفين على الخشبة وحدهم من استحق الإشارة والاحتفاء، بل جموع المستمعين أيضاً، التي عمّت القاعة بالكامل، مقعداً لمقعد، وكتفاً لكتف، من دون كراسي فارغة كما في السابق، تحرس مسافات التباعد، وتفرض على الحفل أجواء الخلاء، ولا كمامات بيضاء واقية تحجب البسمات، وإن أوصي بالالتزام بها طواعيةً؛ إذ ظلت أمداً طويلاً تبثّ في الحفلات الموسيقية أجواء الوحشة. بدت الخشبة المُضاءة والممتلئة شمساً وضّاحة، تحلّقت حولها القاعة وقد افترشها جمهورها، فسيفساءَ بشرية زاهية، حقنت جميع رواد الأمسية بجرعة معزّزة من التفاؤل.

تفاؤل، لم يفلح في تبديد أجواء الحرب المتلبدة شرقي القارة الأوروبية، إذ أعلنت إدارة المهرجان، بالتعاون مع إدارة القاعة الفيلهارمونية، دعوة الفرقة الفيلهارمونية لمدينة أوديسا الأوكرانية، التي تتأهب لنُذر هجوم روسي محتمل، لإحياء حفل يوم الثلاثاء المقبل، بمرافقة عازفة البيانو الصربية تمارا ستيفانوفيتش (Tamara Stefanovich). كذلك سيتضمّن برنامج الحفل أعمالاً لمؤلفين أوكرانيين، إضافة إلى السيمفونية الثانية للمؤلف الفنلندي الرومانتيكي الأشهر، يان سيبيليوس (1865-1957/ Jan Sibelius). وذلك فيما فنلندا، جارة روسيا، التي بقيت على الحياد طوال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، تعدّ نفسها اليوم للاحتماء تحت مظلة الناتو.

الغاية من الدعوة، أوضحتها النائبة عن حزب الخضر المشارك بالائتلاف الحاكم، ووزيرة الدولة الألمانية للثقافة والإعلام كلاوديا روت (Claudia Roth)، من خلال كلمة ألقتها بمستهل حفل استقبال أقيم عقب أمسية الافتتاح الموسيقية، حضره سفير هولندا في ألمانيا، قائلة: "العرض الذي ستُقدمه أوركسترا أوديسا الفيلهارمونية خلال مهرجان برلين للموسيقى، سيسمح لنا بأن نتعرف إلى التراث الموسيقي الأوكراني. بهذا، فإنّ دعوتنا لن تكون فقط رمزاً للتضامن مع المدينة، بل أيضاً، بمثابة إشارةٍ إلى الهوية الثقافية الراسخة لأوكرانيا".

حتى البرنامج الموسيقي لأمسية الافتتاح، كان بمثابة مقابلة حقبوية، تخصّ السيرورة التاريخية الأوروبية. فقد تألّف من عملين ضخمين، واحدٌ كُتب أوّل القرن الماضي، وواحدٌ أُلف أول القرن الحالي. وما أشبه العشرية الثانية من الألفية الثالثة، بفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، لجهة الطفرة التقنية والمعرفية، وما انبثق منها من وعدٍ بغدٍ مُشرق للغرب، تقابلها حركةٌ لصفائح الجيوسياسة التكتونية، تشي بأزمات اقتصادية، واضطرابات اجتماعية، وبحروب وصراعات، يؤول العالم بأسره مسرحاً لها.

القسم الأول من البرنامج، مُنح لمؤلفة، من فنلندا أيضاً، تتخذ من العاصمة الفرنسية باريس مقرّاً لها، وتُعد من بين المؤلفين المعاصرين الأكثر فرادةً والأشد تأثيراً، هي كايا سارياهو (Kaija Saariaho). قدمت للأخيرة فرقة كونسرت خباو مقطوعة تحمل عنوان "أوريون" (Orion)، مؤلفة من ثلاث حركات، تؤدى من قبل تشكيلة آلية كاملة وطاقم إيقاعات موسّع. الحركة الأولى بعنوان "تذكّر مماتك" (Momento Mori)، تتجسّد صوتياً من خلال الأطياف اللحنية المتوالدة والمتأجّجة اطراداً، رحلة عبور بين الأكوان، أو بين عالمَي الحياة والموت.

الحركة الثانية بعنوان "سماء الشتاء" (Winter Sky)، يفتتحها الفلوت الصغير، بيكولو، بصوته المحتد المقترب من الصفير. رغم المناسيب اللحنية والهارمونية المركبة والمعقدة، تظل الموسيقى سرمدية، كسماء قطبية. الحركة الأخيرة وعنوانها "صياد" (Hunter)، تُعيد الموسيقى من جديد إلى الأرضي والدنيوي، من باب الحركة الإيقاعية. إلّا أنّ اختراقات سماوية بين الحين والآخر، من فضاءات تأمليّة، تُحبط الحركة المستعرة، تتردد كما لو كانات أصداءً لتجربة العبور التي سبقت، تُذكّر المتأمِّل بأنّ للحياة ما وراء، يستتر خلف حجاب الواقع.

القسم الثاني كان السيمفونية السادسة للمؤلف النمساوي، من الحقبة الرومانسية المتأخرة، غوستاف ماهلر (Gustav Mahler /1860-1911). كتب المؤلف العمل خلال صيف كل من عامي 1903 و1904. كانت تلك الفترة حالكة في حياة المؤلف. اتخذ قراراً قاسياً بترك منصبه قائداً لأوركسترا فيينا المرموقة، ثم أصابت ابنته الكبرى حمّى أودت بحياتها، وهي لا تزال بعمر الخمس سنوات. حتى هو، أحد الأطباء سيُشخّص عنده آفة قلبية، ستكون آجلاً السبب في رحيله. كلها مجتمعة، صعقات قدرية جعلت من سيمفونيته السادسة عملاً سوداوياً. أطلق عليها بنفسه، عندما طُبِعَت للمرة الأولى، السيمفونية "التراجيدية".

من هنا، تدخل على العمل عناصر إيقاعية حادة النبرة ومدويّة. أشار ماهلر إليها، على أنها تمثيل صوتي لـ"مصائب القدر" حين تلمّ بالمرء تباعاً. إحدى أكثر تلك العناصر الإيقاعية جذباً للانتباه، تلك التي تُسمع في غير موقع من الحركة الأخيرة والختامية (Finale). هو صوتٌ عال تُصدره آلة على شكل مطرقة خشبية عملاقة، يهوي بها العازف قابضاً على عصاها بكلتا يديه، نحو صندوق خشبي ضخم مجوّف.

على إثر الطرقة، ترعد القاعة، كأنما أطلقت من زاوية خشبة المسرح قذيفة مدفع. قد لا تكون السيمفونية السادسة أروع ما كتب المؤلف العظيم، إلا أنها من الناحية البنيوية، من أفضل ما ألّف. تتميّز هذه السيمفونية بوحدة في الموضوعات الشكلية التي تكوّنها، تتجاوز حدود الحركة الواحدة، لتربط الحركات الأربع، فيتماسك بعضها مع بعض. إضافة إلى كونها، نتيجة الغنى بالعناصر الإيقاعية، عملٌ مشوّقٌ ومُثير، يُبهر العين، بقدر ما يأسر الأذن.

أتت أمسية افتتاح مهرجان برلين، أوروبية خالصة. من خلال دعوة فرقة هولندية مرموقة كـ"كونسرت خباو"، ثم تقديم عملين أوروبيين، واحدٌ يمثل الحاضر، وآخر يُضيء على الماضي القريب. ذلك يعكس المحكّ الذي تجد فيه القارة نفسها عليه، جراء تأزّم الوضع الإقليمي على الجهة اليوراسية مع روسيا، والتبعات الاقتصادية للحرب المُحتدمة، يُضاف إليها عامان من جائحة عالمية، قطعت عن الاقتصاديات الصناعية خطوط الإمداد، وأصابت أسواقها بالتضخم؛ إذ بات الأوروبي اليوم مهدداً بفقدان الرفاه الاجتماعي والاقتصادي الذي اعتاده لأول مرة منذ خمسين عاماً.

لذا، ترى المؤسسات والنخب السياسية من جهة، تحتفل من خلال الثقافة والفنون بعودة الحياة إلى طبيعتها، ومن جهة أخرى، باتت تنشد لها في الثقافة والفنون درعاً تحفظ لها الهوية.

المساهمون