"ما تسمع كان الرّيح": جماليات سحر وغموضٍ في سيرة امرأة

26 نوفمبر 2021
نور حجري: "مادوسا السوداء"في أجمل أداء (فيتّوريو تزونينو تشيلوتّو/ Getty)
+ الخط -

 

الاختلاف كبيرٌ بين العنوانين، العربي والإنكليزي. الأول يقول إنّ "ما تسمع كان الرّيح"، بينما الثاني يختزل الشخصية النسائية الأساسية، وسيرتها اليومية بين نهارٍ وليل: "مادوسا السوداء". الأهمّ كامنٌ في ندى (نور حجري): شابّة جميلة، تغرق في صمتٍ يُشبه الخرس (أو ربما الخرس عطبٌ فعليّ فيها، أو أداة حماية)، وتعيش ازدواجية فاقعة، رغم أنّ ظهورها في النهار قليلٌ، من دون إحداثِ فرقٍ كبير، باستثناء تمكّنها من إغواء شبابٍ في سهراتٍ ليلية، واستدراجهم إلى منازلهم، والقضاء عليهم بوحشيةٍ، يتحفّظ المخرجان التونسيان إسماعيل (1981) ويوسف الشابي (1984) عن إبرازها مباشرة، لاهتمامٍ لهما في تعرية روح امرأة وذاتها، وفي تعرية حكاية وشعور أيضاً، باستخدامٍ جمالي باهرٍ للأسود والأبيض (تصوير عماد عيساوي)، بكلّ ما فيهما من سحرٍ وغموضٍ وقسوة وظلالٍ وجحيمٍ، وهذه مسائل تسم ندى، ورحلتها في خراب ذاتٍ وعالمٍ.

قصّة (سيناريو إسماعيل والشابي) تُروى في تسع ليالٍ. تعريفٌ يُكتب في البداية، تمهيداً لرحلةٍ فردية تمزج انهياراً روحياً بعطبٍ نفسي، وخللاً اجتماعياً بتشويق بوليسي، من دون اقترابٍ سينمائي كبير من أيّ منها، فالفيلم مزيجٌ من هذا ومن غيره.

تعاني ندى تراكمات وتمزّقات، لن يكون ضرورياً أو مهمّاً معرفتها بوضوح. الأسود والأبيض يقولان، منذ الدقائق الأولى، إنّ أجمل الجماليات السينمائية حاضرةٌ في سحر الغموض وقسوة الظلال، وفي براعة ممارسة الجحيمِ طقوسَه في حياةٍ قبل الموت. الغرق التدريجي في لعبة الإغواء والعنف يترافق مع نصٍّ لراويةٍ تختمه في النهاية مع اختفاء ندى. نصّ يسرد حكاية شابٍ يقع في حفرة، من دون أنْ يُدرك سبب وقوعه فيها، ولا كيفية حدوث الفاجعة. لكنّ الفاجعة تقوده إلى اختبارات ومطبّات، والمرأة في الحكاية تمارس عيشها في انقلابِ أقدارٍ وطبائع ومسارات.

كلُّ ليلةٍ ستكون مُفعمةً بتشويقٍ، يزداد قوّة مع طغيان الأسود والأبيض، الذي (الطغيان) يُثير توتراً وارتباكاً يمنحان المُشاهدة متعة الإسراف في مراقبة وتلصّص، وفي بحثٍ عن مخفيّ في حركةٍ أو موقفٍ أو تعبيرٍ أو نبرة. النصّ البصريّ، بجماليات مسارٍ درامي وأداء تمثيلي لنور حجري وريم حيوني (نورة)، وتناغمِ صخبٍ موسيقيّ بسلاسة موسيقى أخرى (عمر علولو)، مع صمتٍ مطبق أحياناً، وثوانٍ عدّة تفيض بالأسود الكلّي على الشاشة بين لحظة وأخرى، وبين لقطة وأخرى، وبين انفعال وآخر (توليف إسماعيل)؛ هذا كلّه جزءٌ من عالمٍ متكامل يتداعى في سيرة ندى، ويكشف جمالَ سينما تتفنّن في ابتكار صُورٍ، تشي بمتانة سردٍ واشتغالاتٍ.

 

 

ما يُعتَبر "قصّة"، تُروى في تسع ليالٍ، لن يكون قصّةً تقليدية عن عذاب امرأة بين ليلٍ ونهارٍ، ومع رجال وعيش. تتوارى القصّة في أفعالٍ وعلاقات، وصمت ندى (إنْ يكن خرساً أو رغبةً في مزيد من عزلة وحماية وتحصين لذاتٍ وروح تتألّمان كفايةً) يروي فصولاً منها، كذاك الصمت الذي يحلّ قاسياً على لقطاتٍ، أو ككلامٍ قليل يُقال أحياناً لرجالٍ، بعضهم مسكون بانهيار وفراغ، وبعضهم معطوبٌ بوحدة وانكسار. ما يقوله هؤلاء مجرّد كلامٍ، يحتمل تعابير تعكس ما فيهم من حالاتٍ وأحاسيس. ذهاب بعضهم إلى أقصى الاختبار مع شابّةٍ، غريبة عنهم، غير متوقّع، لكنّ اللحظة تفرض حالةً، والنتيجة عنفٌ مفاجئ وصادم.

الإيحاء بكيفية ارتكاب الجُرم الأول أقسى وأكثر إيلاماً من مُشاهدته مباشرة. الإشارات الجنسية أساسية، وإنْ تتجرّد من وضوحٍ يقضي عليها إذا أًريد له البروز، وهذا غير حاصل. العلاقة بينها وبين نورة مليئة بتناقضات ورفض، قبل انكسار حاجز المسافة، في مقابل إشارات جنسية بينهما، غير مُكتملة وغير مفضوحة وغير ملموسة وغير مؤكّدة.

ارتباط الجنس بالعنف معروف، في السينما والحياة والنفس البشرية. كلُّ إيحاء به في أكثر من لقطة، في "ما تسمع كان الرّيح" ـ يعرض على منصّة "أفلامنا" ـ aflamuna.online، في الدورة الـ8 (1 ـ 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021) لـ"مهرجان مسكون لأفلام الرعب والخيال العلمي" ـ يحافظ على جمالية بوحٍ غير مُعلَن، يُعبَّر عنه بتصوير داكن، وصوتٍ (تصميم أمل عطيّة) يتغلغل في مسام روح وجسد وقلب، كمن يفتّش عن خلاصٍ من ضغط وحصار وبطش ذاكرة، تأتي من ماضٍ حادّ ومؤلم، رغم أنّ هذا الماضي غير حاضرٍ، باستثناء مرة واحدة. أو لعلّ تلك المرة الواحدة إيهامٌ بماضٍ، حادّ ومؤلم، يتسرّب إلى راهنٍ، تختلط فيه حالات وأوجاع وتفاصيل، كاختلاط أنواعٍ سينمائية، تُلغي كلّ حدّ بينها لصُنع فيلمٍ موصوفٍ بكونه "فيلم نوار (Film Noir)"، في حين أنّ "مادوسا السوداء"، التي يُظنّ أنّها خلاصة أسطورة يونانية تختلط بحكاية أرملة سوداء، تعكس جماليات عنفٍ وقسوة في شكل امرأة شابّة، تملك في عينيها أقوى إغراء يؤدّي بالمغويّ إلى تهلكةٍ غير مُنتظَرة.

المساهمون