"لانسكي" لأيتن روكُواي... لا مفاجأة سينمائية في سيرة رئيس العصابة

04 سبتمبر 2021
ماير لانسكي في القدس المحتلّة (1970): المافياوي اليهوديّ المتجوّل (أرشيف هالتن/ Getty)
+ الخط -

بين ذاكرة ماضٍ معتّق بالجريمة والمال، وحاضر متأزّم ومشروخ الأفق، يرسم المُخرج أيتن روكُواي، في "لانسكي" Lansky الذي طرح في الدور السينمائية في يونيو/حزيران الماضي، وكلف خمسة ملايين دولار أميركي، سيرة ماير لانسكي (هارفي كيتيل، علماً أنّ جون ماغارو يؤدّي دور لانسكي شاباً)، أحد زعماء المافيا اليهودية الأشهر في العالم، الذي يُنسَب إليه أنّه رائد سلسلة اغتيالات وجرائم مُنظّمة في ثلاثينيات القرن العشرين.
علاقاتٌ مُتشعّبة، وجرائم قتل منظّمة، جعلت لانسكي (1902 ـ 1983)، اليهوديّ المُتجوّل، أحد أغنى رجال العالم. طفولة فقيرة في روسيا، قبل أنْ يُغادرها والداه سريعاً إلى أميركا. ذكاء الطفل وتفوّقه في الرياضيات منحاه قدرة العمل في كازينوهات المُقامرة، قبل أنْ يؤسّس، مع أصدقاء، أكبر خليّة للجريمة المُنظّمة، على خلفية دوافع مادية بامتياز.

المُدهش في سيرته أنّه، رغم أمواله الكثيرة، لم تعثر عائلته والاستخبارات الأميركية على أي مبلغ منها، وإلى اليوم، ما زال مصير ثروته غامضاً، فهو لم يُصرّح بها، وهذا أحد أسرار نجاحه في حياته الإجرامية، وإدارته عشرات الكازينوهات، من دون خسارة دولار واحد، مع أنّ أعماله وكازينوهاته معروفة بأنّها الأكثر مهنيّة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
البحث عن المال دافعٌ حقيقيّ لأيتن روكُواي إلى منح الحكاية بُعداً بوليسياً، بطريقة فنيّة في تحريك عشرات الشخصيات الثانوية، الراكدة في مسار قصص الفيلم، لإثارة جاذبية وتشويق، لا سيما أنّ تلك الشخصيات الثانوية لم تتشابك منذ البداية مع الحكاية، لكنّها غدت لاحقاً رئيسية، بل مركزية في دفع الأحداث إلى تأجيج متعة بصريّة درامية، وإنْ كانت مُرتبكة في صُنع صورة سينمائية مُؤثّرة في ذهن المُشاهِد.
طغيان الحوار على وسيط بصريّ، معروف بكونه فنّ حركة، جعله باهتاً، في مُقابل جماليّات أخرى كان يُمكن للفيلم أنْ يصنعها لو كان وثائقياً. بناء النصّ وخصوصية أحداثه جعلاه بحاجة ماسّة إلى صورة وثائقية حفرية، لأنّ التخييل مُعطى فيزيقي، لا تفرضه نزعة النصّ وسُلطة التاريخ، بل الذائقة الشعورية للمُخرج أو المُؤلّف. التخييل يدخل في نسيج علاقات أنطولوجية خفيّة مع الصورة، وإنْ كانت ذات حمولة نفسية وتاريخية وسياسية، تبقى مع ذلك ذات علاقة بجسد المُبدع وقدرته على التخيّل. أما الوثائقي، فيتماشى مع سيرة شخصية لانسكي، للحفر في اللامُفكّر النفسي والمكبوت السياسي فيها. طبيعة الصورة الوثائقية تغوص في التاريخ والواقع، من دون أنْ تنطبع أحياناً بأيّ بعد تخييلي، إذْ يهجس المُخرج بالحفر بدل الإدراك والارتحال في طبقات السيرة، عوض الحلّ والركود.


رغم حرص أيتن روكُواي على تخييل بيوغرافية ماير لانسكي، بما فيها من صدمات ومفاجآت في علاقاته المُلتبسة والغامضة بالسياسة والاجتماع، بدت الصورة التخييلية غير قادرة على كشف المستور من حياته الشخصية. حتى الوثائقي، لم ينجح المخرج فيه، ما جعل صُوره السينمائية مُكرّرة ومألوفة، لأنّ منطلقاتها غير حقيقية، ومبنية على كليشيهات بصريّة، تستند إلى شخصية مشهورة في عالم الجريمة. أفلامٌ كهذا تخلق الحدث سينمائياً، من دون شكّ، كالفيلم المُذهل "أعداء الشعب" (2009) لمايكل مان، الذي يستعيد فيه سيرة المجرم جون ديلينجر (جوني ديب). لكنّ البون شاسع بين لانسكي وديلينجر، فالأوّل "ملاك بوجه قذر"، كما يُعرّف لانسكي نفسه؛ والثاني مجرم عصابات، يسطو على المصارف. لانسكي لا يُزوّر النتائج، بل يترك الناس تلعب وتربح بحسب استحقاقها.

لم تعثر عائلته والاستخبارات الأميركية على أي مبلغ منها، وإلى اليوم، ما زال مصير ثروته غامضاً

تُشكّل أفلام السِيَر الذاتية الإجرامية هاجساً للبحث عن اللامُفكّر به، والمُتواري عن الناس، الذين يجعلهم إقبالهم عليها ينتظرون حقائق واقعية، حتى لو ظهرت في الروائي المتخيّل. مخرجون يختارون أفلاماً كهذه لا لإعادة التخييل أو التوثيق فقط، بل للتنقيب عن حقائق تشغل الرأي العام، فيجعلونها تبدو كأنّها مادّة سينمائية مُتخيّلة. مُتابعو "لانسكي" لن يجدوا أيّ مفاجأة سينمائية، إذْ تطغى عليهم حوارات قائمة على الحكي والسرد ومَشاهد الإجرام والقتل.

ورغم أنّ أيتن روكُواي آثر أنْ يلوذ بتخييل السيرة، لم يُوفّق في ذلك، وبقي قالبه الحكائي مقبولاً، بحيث عمل فيه على موضعة سيرة ماير لانسكي، عبر قصّة كاتب بريطاني يُدعى ديفيد ستون (سام ورثنغتن)، يُقرِّر ـ بسبب وضعه المالي والعائلي الهشّ ـ إصدار سيرة لانسكي في كتاب، شرط ألا ينشره إلا بعد وفاة لانسكي. عندها، يحصل على كلّ عائداته. قالب التأليف مذهل، لكنّه يخلو من الدراما التي تُعرف بها هذه الأعمال، في تصعيد حدّتها من مَشهد إلى آخر. في "لانسكي"، يستعيد روكُواي حكايته بتحسّر وألم، لا على الجرائم التي ارتكبها رفقة جماعته، بل لأنّ المال لا يستطيع منح كلّ شيء في الحياة لمالكه. يراقب طفله المُقعد (إعاقته حصلت عند ولادته)، وهو جالسٌ على السرير، بعدما عجزت الدولارات كلّها عن إنهاضه.
في الفيلم، نزعة مغايرة لدى روكُواي، الذي يُحاول أنْ يصبغ بها حياة لانسكي، وتغيير صورته في مخيّلة الناس، كمُجرم ورئيس عصابة. إذْ يُصوّرها بطريقة نوستالجية، لا تعتمد على الـ"فلاش باك" في حكيها، بل على حكي مُزدوج بين ماضٍ وحاضر، يغوصان في أهوال ومآزق ومخاوف وتصدّعات، لم يندمل جرحها بعد رحيله.

المساهمون