بمتابعة الأبحاث الأكاديمية والكتب التي تتناول الثقافة السورية، نرى أن المسلسل السوري قد تحوّل إلى مُنتج سياسي بامتياز؛ نقرأ عبره طبيعة النظام في سورية، وكيفية تمثيل الأصدقاء والأعداء، والأهم ما هي الحدود المباحة وغير المباحة في ما يتعلق بانتقاد السلطة والموقف منها.
يتطلب الموقف النقدي من مسلسل سوري، كـ "كسر عضم"، عدم تجاهل طبيعة العلاقات العائلية التي تجمع مخرجة العمل (رشا شربتجي) بالمؤسسة العسكريّة في سورية، ودور مؤلف العمل وعلاقته مع الحرس الجمهوري، ذلك أن طبيعة العلاقات مع السلطة، ومدى شدتها، يحددان السقف المسموح بتناوله. كل هذه المعلومات تكشفها شارة العمل والعاملون فيه، ما يرسم صورة عن طبيعة نظام الإنتاج، وعلاقته مع السلطة السياسيّة.
ما يتحرك داخل المسلسل من متخيلات عن السلطة والعلاقات بين الأفراد، والتفسيرات التي تُقدم حول سوء حال البلاد، والصيغة الخطابية التي تُقدِّم بها الشخصيات أنفسها، تجعلنا أمام نموذج لما هو مباح، أي يمكن شتم الحكومة وانتقادها، ولا يمكن شتم الرئيس، السيد الذي يتحرك في الأعلى، ولا علاقة له بكل ما يحصل. هذا المتخيل عن السيد الذي لا يمسّ، لكنه موجود في كل الكوادر ضمن صوره المعلقة، يعكس طبيعة نظام الحكم، إذ هناك فئة فوق القانون والدستور، حتى لا يمكن مسها أو ذكر اسمها، لكنها حاضرة دوماً.
اللافت أيضاً أن عملية المشاهدة تتطلب خبرات وقراءات حول سورية نفسها، وطبيعة القوى ضمنها، خصوصاً أن المسلسل يقدم تفسيرات كاذبة ومغايرة لما تقوله الأخبار نفسها، أي نحن أمام نوعين من الحكايات والإشكاليات، مثل تجارة الأعضاء، وغلاء الأسعار، والفساد، والتمسك بالسلطة. يربط العمل كل هذا بفساد أخلاق المواطنين، لكن في الأخبار المتنوعة، والتحقيقات الصحافيّة، نكتشف الأسباب والأسماء والأرقام الحقيقية المثبتة. هذا التناقض يهدد فعل المشاهدة نفسه، كيف يمكن التعاطف أو تصديق ما نراه، ونحن نعلم أنه ملفق ويتناقض مع ما نعرفه بكل تفاصيله؟
لا بد أن نشير أيضاً إلى تقنية المشاهدة الساخرة، القائمة على تكذيب كل ما يقال، فكل مشهد يحوي تلفيقاً وعذراً ما، لتجنب الإشارة إلى المشكلة الحقيقية والرئيسيّة. ولا نتحدث عن تبييض سمعة النظام السوري، أو أفرع الأمن، بل الغرق في الخوف والميلودرامية، أي حتى الشخصيات المتخيّلة تنتحب ويلوم بعضها بعضاً، وتحاول الهرب من حفرة الموت المسماة سورية. تبنّي موقف الساخر يجعل المشاهدة أقرب إلى عملية رصد للأكاذيب. كل جملة نسمعها تقابلها أخرى، مكتملة، غير مبنية للمجهول، يُسمى فيها الأشخاص/المجرمون بأسمائهم.
هناك أيضاً الحذلقة المرتبطة ببنية النظام السوري التي تظهر في المسلسل بوضوح؛ فهرمية السلطة غامضة. مثلاً، من يمتلك القرار الحقيقي؟ من يمتلك السلطة الشرعيّة؟ الصراعات بين أطراف الجيش وأفرع الأمن لا تحدد الهرميّة، الكل يمتلك صلاحيات وسلطات لا نعلم مصدرها: العائلة؟ القرية؟ الرئيس نفسه؟ من يمتلك السطوة فوق من؟ والأهم، كيف يُطبّق القانون فجأةً؟
مثلاً، يؤدي فايز قزق دور شخصية تُدعى الحكم (أبو ريان). أُوقع به ليس لأنه فاسد، أو لص، أو مرتكب لجرائم عديدة، بل لأنه قاتل فقط. مجرّد كمين تنصبه له زوجته، يُوقع به، أي ليس عبر سير مجرى العدالة والتحقيق الجنائي الطبيعي. هذا يتركنا في حيرة حول آلية العقاب في سورية، وكيفية توزيع الاتهامات، تلك التي لا بد من قراءة معمقة لفهمها، قبل أن نباشر بمشاهدة أي مسلسل سوري يُعرض حالياً.