"قرار المغادرة": كاميرا سلسة وسيناريو مُشوِّق

27 يوليو 2022
"قرار المغادرة" لبارك تشان ـ ووك : حبّ أم تحقيق بوليسي؟ (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يصعب اختزال "قرار المغادرة"، للكوري الجنوبي بارك تشان ـ ووك (1963) ـ الفائز بجائزة أفضل إخراج في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي ـ بالقول إنّ أحداثه تتعلّق بمُحقّق في الشرطة، مُمزّق بين الخيانة الزوجية والواجب الأخلاقي لمهنته. الإطار العام، السطحي، يوحي بذلك التبسيط. لكنّ الانغماس في أحداث الفيلم وشخصياته وتفاصيله، يقود إلى أبعاد أعمق. إنّه أكثر من فيلم إثارة وتشويق وجريمة وألغاز، أو فيلم مُطاردة مُحقِّق امرأةٍ، يُشتَبَه بأنّها قاتلة.

كعادته، يستلهم بارك تشان ـ ووك - الفائز سابقاً بجائزتين في مهرجان "كانّ" نفسه: "الجائزة الكبرى" عن "ولد كبير"، في الدورة الـ57 (12 ـ 23 مايو/أيار 2004)؛ و"جائزة لجنة التحكيم" عن "عطش"، في الدورة الـ62 (13 ـ 24 مايو/أيار 2009) ـ حبكات أفلامه من روايات أدبية (أحياناً يقتبس الرواية كلّها، وأحياناً أخرى يستلّ منها أجزاء متفرّقة)، لينسج منها سيناريوهات مكتوبة بمهارة واحترافية، كأنّها للسينما مُباشرة، بالاشتراك مع كاتبة السيناريو الأثيرة لديه سيو ـ كيونغ جيونغ.

"قرار المغادرة" ليس استثناء. فالفيلم يستلهم أشهر سلسلة روايات الجريمة والتحرّي والإثارة، الذائعة في السويد، في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته، للكاتبة ماي خُوافال، وشريكها بيار فاهلو، وبطلها المُحقّق مارتن بَكْ، وبعضها تحوّل مؤخراً إلى أفلامٍ ومسلسلات ومسرحيات.

بطل "قرار المغادرة" هاي ـ جون (الكوري الجنوبي بارك هاي ـ إيل)، شرطيّ حادّ الذهن، ومُحقّق مُتمرّس ومُخضرم. مُرتّب وشديد الدقّة. مُعجب بروايات المُحقّق مارتن بَكْ، ويعشق مُطالعتها وشخصية بطلها، النزيه مثله. تدور أحداث الفيلم في بوسان، حيث يُحقِّق هاي ـ جون في قضية قتل لم تُحلّ، وينتقل إلى قضية جديدة مُحيِّرة، تقلب حياته كلّياً، إذ يُعثر على جثة مهشّمة لمُتسلّق جبال مُحترف عند سفح صخرة جبلية شاهقة خارج بوسان. هل سقط؟ هل انتحر؟ أم أنّ أحدهم أراد التخلّص منه، فدفعه من علٍ؟ ولماذا؟ من هذا الرجل أصلاً؟

في الهاتف الخلوي للرجل، يعثر هاي ـ جون على صُور عدّة لجسد امرأة فيه كدمات، بسبب تعرّضها للضرب. إنّها زوجته الصينية الصغيرة الجميلة سيو ـ راي (الصينية تانغ وي)، الممرضة، المُتخصّصة برعاية كبار السنّ. جاءت إلى كوريا الجنوبية كمُهاجرة صينية غير شرعية، حيث موطن جدّها، الجندي السابق في الجيش الكوري، في ثلاثينيات القرن الـ20، لمحاربة اليابان. هكذا يتضح لماذا لا تُجيد اللغة الكورية، فتستخدم مترجماً آلياً على هاتفها، لترجمة ما تعجز عن فهمه، أو ما تعجز عن التعبير عنه بكوريّتها الضعيفة.

لسيو ـ راي حجة غياب، فهي كانت مشغولة عند وقوع الوفاة. لكنّ الأدلة الظرفية تتزايد ضدها، خاصّة أنّها لم تُبدِ انزعاجاً لفقدان زوجها، وإزاء صُور جسده المُهشّم وجمجمته المُحطّمة، التي عرضها عليها هاي ـ جون. تدريجياً، يُغرَم الأخير بها، وتبادله الحبّ هي أيضاً، ما يطرح تساؤلات: هل سيتسترّ هاي ـ جون عليها؟ هل هي القاتلة فعلاً، إذا قُتِل الرجل؟ للحظات، تبدو الإجابات سهلة، وانكشافها سريع. لكنْ، مع تقدّم الأحداث، يُزعزع السيناريو كلّ يقين، ويُبقي الأمور غير واضحة. كلّ مشهد جديد يزيد الحيرة والارتباك، ويدفع التساؤلات إلى أقصاها، خاصة مع تحوّل الشخصيات، وتطوّر الأحداث، ومرور الزمن.

 

 

في الوقت نفسه، يُثير "قرار المغادرة" أسئلة عن العلاقات الزوجية الروتينية، وجمودها، فهاي ـ جون متزوّج من جونغ ـ إن (لي جونغ هيون)، لكنّه لا يلتقيها إلاّ في عطلات نهاية الأسبوع. بعد فترة، تُصبح سيو ـ راي رفيقته في أيام الأسبوع، في شقّة في المدينة، بعيدة عن المنزل الزوجيّ الساحلي. ثمّ تتحوّل العلاقة من اهتمام إلى مراقبة، ومن اشتباه إلى إغواء، ومن هوس إلى حبّ. يُحاول المواءمة، إلى أقصى درجة، بين الواجبات الزوجية والمُتطلبات المهنية، ما يطرح أسئلة أخرى جديدة عن حدود المهنية والاحترافية والاستقامة وصدق النوايا، في ظلّ انتفاء الأدلة. لا سيما أنّ القضية أُغلقت على أساس الانتحار، لا كجريمة قتل.

ثم في أيّ نقطة يُقرّر المرء أنّ زواجه غير ناجح؟ متى يعلم أنّه في حالة حب؟ ما الذي سيُطلق قرار المُغادرة؟

لا يكتفي "قرار المغادرة" بما سبق من إثارة وأسئلة، وبما قُدِّم من أنصاف إجابات، إذْ يتحوّل السيناريو إلى منعطفات أخرى، أكثر إثارة للاهتمام، بعد أن غيَّرَ هاي ـ جون منطقة عمله، وانتقل إلى مدينة ساحلية بعيدة (إيبو)، حيث تعمل زوجته في محطة نووية. لكنّه يلتقي، ذات يوم، بعشيقته القديمة، في أحد الأسواق. هل تبعته سيو ـ راي؟ أم أنّ الأمر صدفة؟ المُثير أكثر أنها تزوّجت مؤخّراً رجل مال وأعمال، يُدعى هو ـ شين (بارك يونغ ـ وو).

هل يبرز الماضي فينتعش مجدّداً، ويمتد إلى مسافات أبعد وأعمق بينهما؟ هل يُمكن أن تحيا قصّة حبّ رومانسية غير مُكتملة، مسمومة وملوّثة، بين شخصين يعتمد أملهما الوحيد على ترك الماضي من دون حلول؟ عوضاً عن التفكير في أسئلةٍ كهذه، يموت هو ـ شين فجأة. هذه جريمة قتل مُكتملة الأركان، حدثت في الفيلا الخاصة بهما، الواقعة في ضاحية هادئة لا تشهد حوادث قتل أو سطو. مُجدّداً، تحوم شبهات حول سيو ـ راي، عن تورّطها في الأمر.

يتعيّن على هاي ـ جون استدعاء الماضي، ومُلابسات القضية القديمة وتفاصيلها، للمساعدة في فكّ طلاسم القضية الجديدة، شديدة الشبه بسابقتها، والتفكير أكثر: هل ما سبق كان محض طعنة غادرة، أو التفاف وتملص بذريعة الحب؛ أم أنّ الأمر أكبر وأعقد من كل هذا؟ أكانت الأمور مُرتبطة فعلاً بالبحث عما هو موجود، أم مجرّد رؤية وتخيل ما أراد رؤيته وتوهّمه؟ تساؤلات لا يجيب عليها "قرار المغادرة"، الذي يُقدّم نهاية مُغايرة ومفتوحة على احتمالات وتأويلات عدّة، عن اقتران الحبّ بالجريمة، أو عن جريمة الحبّ.

بعيداً عن السيناريو، وقصّة الحبّ الغريبة والجميلة، وخيوط الحبكة غير التقليدية، وتدفّق الحوار، وأداء الممثلين، والانسجام الرائع والملموس بينهم، لا يُشيّد بارك تشان ـ ووك فيلمه على هذه المفردات السينمائية فقط. أساساً، "قرار المغادرة" كبقية أفلامه: إنّه فيلم مُخرج، له بصمته البصرية الفريدة والمُميزة. مُختلف الجوانب التنفيذية، الفخمة والمُبهرة، بالغة الاعتناء والدقة، تنطق بصورة ملحوظة مع كلّ مشهد، رغم الانشغال بمتابعة الأحداث، وفكّ الخيوط، ومُلاحقة التطوّرات والمفاجآت.

تجلّى الأمر في حركة الكاميرا، الإبداعية الحيوية الراقصة، في تراجعها واندفاعها بقوة، ودورانها 360 درجة، إذ تدور فجأة، وتعكس حركتها، وتنقلب رأساً على عقب، ثم تعود إلى مكانها الأول بسلاسة. تجتاز الجبال بشكل مُذهل. أيضاً في استخدام العدسات، والتكبير والتصغير، للتشويه أو الانبعاج، في إبداع لافت للانتباه، حديث وغير مُتوقَّع، للمصوّر الفوتوغرافي كيم جي ـ يونغ.

في "قرار المغادرة"، لافتٌ جداً الاستخدام الجريء للألوان، والاستغلال البديع للمناظر، لا سيما الجبلية (الصخرة في البداية)، ومَشاهد الضباب والثلج في منتصف السياق، فالبحر في النهاية. والتوظيف المُرهف للأغنية العاطفية الشاعرية الرقيقة، بعنوان "ضباب".

المساهمون