انتصر المخرج التونسي عبد الحميد بوشناق، في سينماه، للمختلف والخارج عن السائد، مقارنة بما يُنتج عربياً. هذا أكّد عليه في فيلمه الروائي الأخير، "فرططو الذهب" (2021)، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ32 (30 أكتوبر/تشرين الأول ـ 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2021) لـ"أيام قرطاج السينمائية" (تنويه خاص). سبب الاختلاف أنّ مُدوّنة السينما العربية ركّزت، منذ تأسيسها، على أنواع سينمائية مُحدّدة، وتخلّت عن أفلام الرعب والمغامرة والحركة والموسيقى، وعن غيرها من التيارات الأخرى، لأسبابٍ يطول شرحها، وإنْ كانت هناك تجارب، فقليلةٌ لا تُشكّل توّجهاً؛ ما جعل بوشناق يتخطّى هذا التصوّر الموروث، ويعتنق أنواعاً سينمائية جديدة، كالرعب في "دشرة" (2018)، المُشارك في أسبوع النقّاد، في الدورة الـ75 (29 أغسطس/آب ـ 8 سبتمبر/أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"؛ منتقلاً بعده إلى الغرائبية، في جديده "فرططو الذهب" ("الفراشة الذهبية" في لهجة الدول المغاربية)، والرعب فيه حاضرٌ أيضاً وإنْ باحتشام، من دون استيلائه على التصنيف السينمائي.
استغلّ عبد الحميد بوشناق، مخرج وكاتب سيناريو "فرططو الذهب"، الأفراد المأزومين، لتحريك قصّته، والدفع بها إلى الأمام، وفي الوقت نفسه العودة من خلالهم إلى الوراء، لفهم أسباب العلل التي أسهب علم النفس في تحديد مسبّباتها وتفسيرها، وفقاً لمعطيات سلوكية مُعيّنة، أنتجها واقع المجتمع، وبدرجة أقرب واقع الأسرة، التي جعلها بوشناق مُبرّراً ومنطلقاً لتفاصيل الحكي، عبر مُعز (محمد السويسي) الشرطيّ الثلاثينيّ، والأب المتسلّط والسكّير والعنيف (فتحي الهداوي)، والأخت المُستكينة الراضية بقدرها (هالة عياد)، والأم المُعنّفة التي تتحمّل وحدها خطايا الأسرة وسلوكها بكل مرارتها. معز عنيف، تربطه علاقة متوتّرة مع مسؤوله المباشر في مركز الشرطة، ومع والده، الذي كان سبب إعاقته وعجزه. لهذا، استقلّ في بيته، تاركاً والده وأخته التي ترعاه، بعد أنْ أصبح عاجزاً عن الاهتمام بنفسه. الابن العنيف منهارٌ، لا يملك سبباً للبهجة في الحياة، التي تتعقّد أكثر عندما يأتي إلى بيته طفلٌ معه ورقة تشير إلى أنّه ابنه، الذي لم يبقَ له وقتٌ كثيرٌ ليفقد البصر، فحاول استيعاب الأمر.
راضياً بهذا القدر، يُقرّر معز الذهاب مع الطفل في رحلات، يرى فيها أشياء لا تُصدَّق ولا تُنسى. الرحلة تؤسّس الخطّ الغرائبي الذي رسمه بوشناق بكل شجاعة، من دون عقدة من موروث التلقي النمطي، المطبوع في أذهان الجمهور العربي المُسيَّر في خطّ نوعي واحد في السينما العربية، على عكس السينما العالمية، التي يتقبّل منها الأنواع السينمائية كلّها، بحكم إنتاجها الغزير، والتراكم الزمني.
أوجد عبد الحميد بوشناق أشكالاً وشخصياتٍ، تتشكّل وتنمو في تهويمات العقل الداخلي، وأخرجها من الزوايا المعتمة، جاعلاً إياها كائنات ظاهرة بأشكالٍ غريبة وخارجة عن المألوف البصري، كالشاب صاحب اللسان الطويل، والرجل المُقيم في المستودع المهجور، ذي الجناحين الكبيرين اللذين يضمرهما ويُظهرهما متى شاء، وجنّة الحوريات الجميلات، اللواتي دخل إلى عالمها، خاصة تلك التي لها 3 عيون تحت فروة شعرها. هناك رجل يعيش وحيداً في كوخ خشبي متواضع، إلى جانب البحيرة، بعيداً عن الناس، ويتحوّل إلى حيوان مفترس عندما يرى شرائح اللحم، أو يشمّ دمها.
هذا كلّه أكسب الفيلم غرائبيّته، وأثّث خيال الطفل في تلك الرحلة السحرية العميقة، التي لا تنسجم مع مفردات الواقع. هكذا تبدأ شخصية معز في الظهور، ويبدأ معها ذوبان قناع القسوة والطيش والعنف، المُشكّل في بداية الفيلم، فيظهر قلبه الطيب، ولينه وحرصه على علاقة الأب بابنه.
مقدمة "فرططو الذهب" قاسية وقوية، شحنت المتلقّي بمشاعر الحقد على شخصية معز القاتل والمنتقم. ساهمت في تكريس هذا الشعور ملامح وجهه المعبّرة، إضافة إلى تصرّفاته العنيفة والغاضبة، والفوضى التي يعيش فيها. لاحقاً، تحوّل الكره إلى محبة واحترام. هذه الجزئية نفّذها بوشناق بذكاء، بخلقه العاطفة، وبتوجيهها والتحكّم بها. وبعد أنْ اتّضحت الحكاية، تبيّن أنّ الحبكة هشّة وغير متشابكة ولا مُقنعة، بعد كشفه أنّ الطفل انعكاسٌ لطفولة معز، والعوالم السحرية والغرائبية صُوَر مخزّنة في عقله الباطنيّ، تلقّاها من والده المسرحي المهرّج، الذي تنكّر له الزمن، بعد أنْ أفنى عمره في إضحاك الآخرين. لكنّ الفنّ تغيّر، ولم يعد مهمّاً، فانزلق إلى القسوة والعنف والسكر، وأصبح لا يطيق نفسه وأسرته والعالم الذي يعيش فيه، باحثاً فقط عن وسيلةٍ يهرب بها من واقعه البائس غير المقبول.
كان معز يلاحظ الإهانات التي يتعرّض لها والده من مُشغّليه، فتأذّى كثيراً، لأنّ علاقته العاطفية به متينة، وكان يُقدّم له عروض الرجل ذي الجناحين، والوحش مُحبّ اللحم، والمرأة ذات العيون الـ3. كان يبهره هذا، ويشحن به خياله الطفولي، فانطبعت في ذهنه كحقيقة، وأصبحت هاجساً له. لم يحتمل مُشاهدة والده في حالته تلك، بعد أعوامٍ من العطاء.
لكنّ عبد الحميد بوشناق لم يجد رابطاً مناسباً يجمع به القصّتين، ويدمج إحداهما بالأخرى من دون أنْ يشعر المتلقّي بالفرق بينهما. اكتفى بإعادة تمثيل مشهد السيارة ومعه الطفل، ثم خرجت أخته ونظرت إلى السيارة والطفل الجالس في المقعد الامامي. في الإعادة، لم يكن هناك طفل في السيارة، للإشارة إلى أن هذا كلّه هلوسة من الماضي، ساكنة في ذهن معز المأزوم. هذا الربط غير مقنع، يفتقر إلى الخيال الذي يُفترض به أنْ يدمج المرحلتين بسلاسة. إضافة إلى الإطناب والحشو، اللذين كان على المخرج الاستغناء عنهما لإيضاح فكرته ورؤيته بسهولة. وظّف تلك المشاهد من دون أنْ يُثبت جدواها الدرامية، فأصبح الهيكل الهندسي العام، الذي بُني الفيلم عليه، محتاجاً إلى إصلاحات.
في "فرططو الذهب" (اختارته تونس للمشاركة في التصفيات الأولى لـ"أوسكار" أفضل فيلم دولي، في نسختها الـ94، المُقامة في 27 مارس/آذار 2022)، انعكست جماليات بصرية عدّة بفضل التصوير، انطلاقاً من توظيف جيّد لخاصيّة الظلّ والضوء في مشاهد مختلفة. إضافة إلى تأثيثها بالمعنى السيميولوجيّ، الذي كان مُعيناً للّغة المحكية، كمشهد الأب عند تناوله الطعام، وإلى جانبه ينبثق نورٌ قوي من النافذة، ما أظهر عجزه على الاعتماد على نفسه.
هذا أثبتته تصرّفات وملامح أظهرها الضوء، وخيوطه المتسلّلة من نوافذ المستودع، حين كان يبحث معز عن صاحبه القديم ذي الجناحين. مشاهد أخرى ـ كهطول المطر، وتصاعد دخان السجائر، وانعكاس ضوء النار على الوجوه ـ ساهمت في تقوية الفيلم، وتوليد جمالياته البصرية، ليكون بمجمله عملاً يستحق أنْ يُشاهَد ويُكتشف، لأنّ عبد الحميد بوشناق أظهر شجاعة في خوض غمار هذا النوع السينمائي الصعب، الذي يحتاج دائماً إلى إمكانات كبيرة، لأنّ على السينما الغرائبية إبهار المتلقّي وإيهامه بأنّ ما يشاهده هو العالم الحقيقي. هذا الإقناع يحتاج إلى مهارات فردية ومحترفة، وإلى تقنيات حديثة، أي إلى ميزانية كبيرة لا تملكها صناعة السينما العربية.