"ع أمل تيجي" لبربري: كاميرا تُرافق أصدقاء بلغة السينما

04 ابريل 2022
الأصدقاء الـ4 ينتظرون بائعة الهوى في "ع أمل تيجي" (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يترافق اكتشاف الجسد مع تأمّل في أحوالٍ ذاتية راهنة، وفي مستقبلٍ يُحدَّد بتفاصيل قليلة، يراها كل واحدٍ من الأصدقاء الـ4، المقبلين على مغامرة الحياة، في بداية عمر الشباب. الجسد أساسيّ. التأمّل في راهنٍ ومُقبلٍ من الأيام لن يكون حكراً عليهم، فأم أحدهم تتأمّل خارج منزلها، وداخل ذاتها أيضاً؛ وبائعة الهوى تقول ما تعيشه وتعانيه وترغب فيه. الغوص في الداخل الفرديّ متوافق، في بوحه، مع تلمّس مسام جسدٍ يتفتّح، والجسدُ المرغوب فيه لن يكون لامرأةٍ فقط. تلمّس هادئ وعميق، يُترجَم إلى كلماتٍ قليلة، ينطقها كلّ واحد من هؤلاء بنبرة تشي بقهر ومعاينة وتفكير وقلق وارتباك.

هذا مشغولٌ بسلاسةٍ غير لاغيةٍ ذاك التعمّق في الجسد والروح والذات. التعمّق نفسه غير متصنّع وغير متباهٍ، لانبثاقه من شعورٍ وتواصل مع الذات والآخر. جورج ـ بيتر بربري يلتقط حميمياتٍ وانشغالاتٍ يقولها ويعيشها الأصدقاء الـ4 معاً، أو كلّ واحدٍ منهم مع نفسه، في "ع أمل تجي" (2021، 86 دقيقة)، المعروض للمرّة الأولى عالمياً في برنامج "بانوراما"، في الدورة الـ71 لـ"مهرجان برلين السينمائي"، المُقامة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021.

التقاط الحميميّات والانشغالات يرتكز على أسسٍ سينمائية تُثبِّت المسار الدرامي للحكاية، المفتوحة على فضاء يتّسع لأحلامٍ ومتطلّبات وهواجس. أسس تبدو متواضعة في اشتغالاتها الفنية والتقنية والدرامية، لكنّها تعكس جماليات نصٍّ (كتابة بربري) مكتوب بشغف الباحث عن أبسط المفردات لقولِ أعمق الأشياء والمشاعر التي يحسّ بها فردٌ يخرج من عمرٍ إلى آخر، مع ما يحمله الخروج من أسئلة وارتباكات ورغبات تبحث عن متنفّس، والرغبات لن تكون جسدية فقط، مع أنّ الرغبات الجسدية جزءٌ أساسيّ من تفاصيل الخروج هذا.

التبسيط سمة تؤكّد جماليات نصٍّ، يُترجمه 4 شبابٍ يُمثّلون للمرّة الأولى، ويتحرّكون في مساحاتٍ ضيّقة (غرفة في منزل، باص، طرقات لن يظهر منّها إلّا السائرون عليها، محلّ لبيع المرطبات وغيرها، شوارع تبدو أزقّة صغيرة، إلخ.)، يصنعها تصويرٌ (كريم غريّب) يجعل الكاميرا ـ التي تبدو ملتصقة بكلّ شخصية، وبالأصدقاء الـ4 معاً، إلى حدّ الاختناق أحياناً (والاختناق مطلوبٌ لتقارب أمتن وأعمق مع الأفراد جميعاً) ـ شخصية إضافية ترافق إتيان (إتيان عسل) وعدنان (عدنان خبّاز) والدنكورة (الياس سعد) وجان بيار (جان بيار فرنجية) في رحلة خروجهم من عمرٍ إلى آخر.

 

 

الرحلة مزدوجةٌ أيضاً: رحلة الانتقال من منازلهم إلى بيت الدعارة، ورحلة البحث في جوف الجسد وعمق الروح ومسام الذات، وفي ما يشي بانكسار أو تطلّعٍ أو نزوةٍ أو رؤيةٍ. الثرثرة، متنوّعة الأشكال والمواضيع، التي يغرق فيها الأصدقاء الـ4 معاً، في رحلتهم الأولى، تختفي كلّياً في الرحلة الثانية، المتمثّلة بتقوقع كلّ واحدٍ منهم (بالإضافة إلى الأم وبائعة الهوى) في عزلةٍ مؤقّتة عن الآخرين، وتتحوّل (الثرثرة) إلى كلامٍ يشي بمسألتين اثنتين: قول ما سيُصبح عليه كلّ واحدٍ منهم، وإثارة إحساسٍ بقبوله، وبما يوحي برفضه ضمنياً. هذا إيحاء مفتوح على تساؤلاتٍ، لا حُكم نقدي قاطع.

مرافقة الشخصيات كلّها، في رحلتين، جغرافية وتأمّلية، تُثير شعوراً بالتباساتٍ، تتحوّل إلى صُور سينمائية تبدو عادية، قبل أنْ تفتح ثقوباً في لحظاتٍ ومطارح، مكانية وروحية وجسدية، تدعو (الثقوب) إلى تسلّل هادئ، يذهب بالمتسلّل إلى زوايا ذاتٍ وانفعالاتٍ. والتسلّل منفذٌ، يكاد يكون وحيداً، إلى رؤية ما يراه الأصدقاء الـ4 وبائعة الهوى كريستال (فيروز أبو حسن)، وإلى عيش ما يعيشونه، وإلى الإحساس بما يحسّون به أو يرغبون فيه. والتصوير، الذي يوحي بأنّ الفيلم كلّه لقطة واحدة، يؤكّد فعل التسلّل إلى عوالم وارتباكات، وإلى انشراحٍ شبابيّ بفعلٍ، يُفترض به منح الشاب سمة الرجولة، لكنّه ـ في الوقت نفسه ـ يدفعه إلى مزيدٍ من تساؤلات وتطلّعات وانكشافات.

في الإيحاء، الذي يصنعه التصوير، تحريضٌ على استكمال قراءة المُشاهَد، المُعبَّر عنه صورةً واشتغالاً وأداء وتفاصيل صغيرة، قبل أنْ يُعبَّر عنه بكلماتٍ منتقاة بدقّة الساعي إلى جعل الكلام، ونبرته وكيفية نُطق تلك الكلمات، عفوياً وصادقاً وحقيقياً.

"ع أمل تجي" أول تجربةٍ للمخرج والممثلين (إليهم، تؤدّي ثريا بغدادي دور القوّادة، وتظهر لوقتٍ قليل)، وللمنتجتين كريستل يونس ورين سمعان (شركة Bee On The Set Production). هذا ليس تفصيلاً عابراً. الخطوة الأولى في رحلة الخروج من عمرٍ إلى آخر (من الشباب إلى الرجولة، كما في التعريف بالفيلم)، تترافق والخطوة الأولى في اشتغالٍ سينمائيّ، يُتوقّع ألّا تبقى أولى، لما فيها من ركائز سينمائية تستدعي اختبارات أخرى.

المساهمون