"عودة"... البزّة العسكرية والمستقبل يدوران في الغسالة

22 مارس 2022
تلتزم الكاميرا حميمية البيت بوصفه رحماً (Imdb)
+ الخط -

يفتتح المشهد الأول من الفيلم القصير "عودة"، كتابة وإخراج غياث المحيثاوي، بشخصية الابن الشاب (أحمد كيكي)، ساهمَ العينين وهو يضع بدلته العسكرية في الغسالة، التي يمتزج هدير محركها، بهدير طائرة عمودية (هلكوبتر).
تنتقل بعدها الكاميرا إلى يدي الأم (أمل عمران)، تغسلُ اللحم الأحمر في مصفاة. حالة الدلالات الرمزية والتفاصيل هذه، سيغتني بها الشريط السينمائي الأول لصاحبه طوال مدة عرضه (16 دقيقة)، ولن يكون التقاطها خفياً، وبهذا لا يخرج المحيثاوي، في التقاط التفاصيل والرمزيات، عن نسقٍ سارت عليه كاميرات مخرجين سوريين قبله.
يكشف الحوارُ مباشرة عن صلب الفيلم ومادته، فالابن في إجازة من خدمته العسكرية، تستمر 24 ساعة، حصل عليها بعدما دفع مليون ليرة رشوة. حالة فساد عادية يتحدث عنها السوريون كجزء من يومياتهم عادةً، تماماً كما تظهر في الحديث الساخر بين الأم وابنها. ليجري الحوار بعدها، بين أم تريد أن تظهر صلبة مؤيدة للمهمات التي ينفذها الجيش، والابن المتشكك المتسائل، الخائف من اقتراب المعارك، والمتسائل عن جدواها وأحقيتها بشكل مباشر، حين يشير إلى أنّه لا يعرف من يحارب، أو أنّ الجيش يقصف قرى زملاء ورفاق سلاح يخدمون معه ويدمر منازلهم، في مفارقة تحيط حروب الإخوة والأهل.
في الإحالة إلى مكان التصوير، تلتزم الكاميرا حميمية البيت بوصفه رحماً، إذ تجول الشخصيات طوال مدة الفيلم في المطبخ، حيث تقيم الأمهات عادةً، حتى لو كن معلمات مدارس وموظفات، كحالة الأم في الفيلم، بينما يأتي الحوار بينها وبين ابنها شديد الوضوح والواقعية؛ فهو الحوار الحقيقي الذي يدور في كل بيت سوري منذ 11 عاماً من الاستعصاء والموت... حوارٌ ممزوج باللحم الحي والدم، وليس باللحم الذي تجهزه الأم لتحضير وجبة كبة لابنها، قبل عودته إلى الخدمة العسكرية، تلك الوجبة التي لن نراه يأكلها، بل سيكتفي الفيلم بمشاهد اللحم المفروم تخرج من المطحنة، فيما يدير الابن مقبضها... المطحنة تدور واللحم يخرج من رحمها...
يتبادل الوجهان المتعبان، عبارات تُلخّص سنوات من الزلزال السوري، فالأم رغم مكابرتها، ودفعها ابنها إلى الخدمة العسكرية بكلام عن الرجولة والفخر، تبدو غير مقتنعة بما تقول، وتصرّح في لحظة ضعف أنها تأخذ المهدئات، متأملة بما يقوله التلفزيون عن انتهاء الحرب، التي تسميها أزمة، فيردُّ الابن عليها متسائلاً ساخراً من التسمية، في دلالةٍ إلى حرب اللغة والمصطلحات والتسميات، إذ تَحارُ ألسنة السوريين عادةً في تسمية ما حلَّ ببلادهم، وتتنوع المسميات التي تبدأ بأزمة، ولا تنتهي عند الأحداث، أو المؤامرة، أو الثورة، أو الحرب، أو التورية بما قبل 2011 وما بعدها، ولكلٍّ مقالهُ بحسب مقامه من الحدث.

سينما ودراما
التحديثات الحية

يطرح المحيثاوي في شريطه، أسئلةً عن البطل والبطولة والرجولة والشهادة والفخر، في إطار التشكيك بالمعنى السائد عن هذه المفاهيم. عندما يصعد الابن إلى السقيفة، ليجلب التلفاز القديم الذي تريد أمه منه أن يأخذه معه، هناك في عتمة السقيفة، سيجد لعبة فارس بلاستيكي صغير، تُعبّأ بالمفتاح، فيبدأ الحصان وفارسه بالركض على محور ثابت. يعيد الابن تعبئة اللعبة عدة مرات، فيتردد صوت الضجيج الذي يشبه الركض، وما هو بركض إذ إن اللعبة ثابتة على محورها.
عندما يُنزل التلفزيون من السقيفة، يُشغّلُه للتجربة، فتصدح منه مقدمة أغنية محمد عبد الوهاب "كل ده كان ليه"، ليستكمل السؤال الذي تنطلق منه الأغنية ما كان يجول في ذهن الابن، وتمتزج الموسيقى بدندنة الأم، التي تتحول إلى حشرجة أقرب إلى الأنين منها إلى مجاراة إيقاع الأغنية، ثم يمتزج هذا كله بصوت الغسالة وأصوات آليات عسكرية.
الغسالة تدور وهي تغسل الزمن الذي أفناه جيل كامل في الحرب، تماماً كما أفنى آباؤهم عمراً في حرب لبنان قبلها، كما يشير الحوار.

تغسل الغسالة الزمن الماضي أو ربما المستقبل، لنعود إلى البداية التي بدأ بها المحيثاوي فيلمه، البدلة العسكرية تدور في الغسالة، الأم تئن، بينما يمتزج صوت الآلة العسكرية بصوت محرك الغسالة، ليصدح عبد الوهاب بسؤاله بعد انتهاء المقدمة الموسيقية ونحنحته الشهيرة: "كلّ ده كان ليه؟" ثم تأتي عبارة في ذكرى الجنود السوريين الذين قالوا لا لقتل أبناء شعبهم.

المساهمون