بعد نحو ثلاثة أسابيع على تصنيف وزارة العدل الروسية موقع "في تايمز" المستقل في قائمة "العملاء الأجانب"، كشفت إدارة تحرير الموقع أنها قررت التوقف عن العمل اعتباراً من 12 يونيو/ حزيران الحالي الذي يوافق اليوم الوطني لروسيا. يسلّط بيان هيئة التحرير في "في تايمز"، الذي نُشر يوم الخميس الماضي على الموقع، الضوء على الصعوبات التي تواجهها المواقع الإعلامية الروسية المستقلة، والتي تحصل على أي دعم حتى ولو كان ضئيلاً من جهات أجنبية. وفي روسيا، يجب على "العملاء الأجانب" من منظمات أو أفراد، وفقاً لقانون أُقرّ عام 2012، التسجيل لدى السلطات وتنفيذ إجراءات إدارية مضنية، والإشارة بوضوح إلى هذا الوضع في منشوراتهم. وتم توسيع القانون العام الماضي حيث بات يشمل الأفراد ويوسّع الإجراءات بحقّهم.
ذكرت هيئة التحرير في بيانها للقراء أنها درست سبعة سيناريوهات بعد قرار وزارة العدل في 14 مايو/ أيار إدراج "في تايمز" كـ "عميل أجنبي"، معربةً عن أسفها أن "جميع السيناريوهات لم تكن مناسبة، وفي كل واحد منها كان هناك خطر للملاحقة الجنائية بحق موظفي الموقع، مع إمكانية الزج بهم بالسجن". وأوضحت الهيئة أن إغلاق الموقع، والتوقف عن النشر "لا يعود فقط إلى إمكانية الملاحقة الجنائية، لأننا نؤدي واجبنا المهني بأمانة، وقد أعلنا منذ البداية "في تايمز" العام الماضي أننا لسنا أداة بروباغاندا، بل صحافة مستقلة نوعية، ومنصة لتبادل الآراء البناءة". وأضافت "أعلنا أننا نرغب في إيجاد نماذج وأفكار إيجابية لتطوير قطاع الأعمال والمجتمع، وفي الوقت ذاته من الطبيعي ألا نغلق أعيننا عن المشكلات القائمة، وعدم تجنب القضايا الحساسة"، ومع إشارة البيان إلى أن هيئة التحرير تشعر بالفخر لأنها أدت مهمتها وفق هذه الأهداف، لفت إلى أن "التجربة أثبتت لنا أن السلطات لا تريد وسائل إعلام مهنية وغير خاضعة لسيطرتها".
تأسس موقع "في تايمز" في يوليو/ تموز من العام الماضي، بمشاركة عدد من صحافيي صحيفة "فيدومستي" المعروفة. وعزا، حينها، القائمون على الموقع الجديد قرارهم إلى أن "روسيا في حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى مصدر مستقل للأخبار، في حين أن قيادة فيدومستي الجديدة تخلت عن مبدأ الصحافة النوعية". وسُجل الموقع في هولندا.
كشفت إدارة تحرير موقع "في تايمز" أنها قررت التوقف عن العمل اعتباراً من 12 يونيو/ حزيران الحالي
وتم بيع صحيفة " فيدومستي" لرجل الأعمال إيفان يريمين، إثر ضغوط بسبب تحقيقات نشرتها مع مواقع أخرى عن شركة "روس نفت" الحكومية التي يرأس مجلس إدارتها إيغور سيتشين، أحد أبرز أصدقاء الرئيس فلاديمير بوتين، ومن أكثر الشخصيات المؤثرة في البلاد. ومعلوم أن صحيفة " فيدومستي" التي شاركت في تأسيسها وامتلاكها "فينينشال تايمز" و"وول ستريت جورنال" وشركة "الإعلام المستقل" التابعة لرجل الأعمال الهولندي درك سوير عام 1999، شهدت على حقبة دخول روسيا في النظام الرأسمالي، مع بدء صعود شركات خاصة من أزمة عام 1998 الاقتصادية. وعرفت بتغطيتها غير المسيسة، والدقيقة للاقتصاد الروسي. لكن في السنوات الأخيرة تغير مالكوها عدة مرات، مع فرض مزيد من القيود على إمكانية امتلاك أجانب لوسائل إعلام روسية، ما أسهم في تراجع صدقيتها، وإقالة أو استقالة قسم واسع من محرريها ومراسليها.
تلقّى موقع "في تايمز" ضربةً قوية منذ 14 مايو/ أيار الماضي، بعد إدراجه في قائمة "العملاء الأجانب"، وإجباره على إضافة سمة "عميل أجنبي" على صفحته الأساسية، وفرض السلطات على جميع وسائل الإعلام التي تنقل أخبارًا أو تحليلات من الموقع الإشارة إلى أنه "عميل أجنبي". وذكرت هيئة تحرير "في تايمز" أن سمة "عميل أجنبي" قضت على إمكانية استمرار نموذج الموقع الذي تأسس كمشروع ربحي، مشيرةً إلى أن "المعلنين والشركاء لا يعرفون طريقة التعامل مع العميل الأجنبي"، ولفتت إلى أنّ "الأسوأ هو أن سمة عميل أجنبي تحرم الموقع من إمكانية التغطية الجيدة للأحداث، نظرًا لأن كثيرًا من المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال وحتى المحللين يخشون من التعليق لـ (عميل أجنبي)".
ومع تفهمها لموقف من يرفض التعليق للموقع، نظرًا لسعي السلطات إلى تقديم الموقع على أنه موقع معارض، وشكرها لجميع المواطنين الذين دعموا المشروع بالتبرعات، شددت الهيئة على أنه "لا يمكن الاستمرار بهذه الأموال لتمويل إعلام نوعي"، وأعلنت أنها اختارت 12 يونيو/ حزيران الجاري الموافق للاحتفال باليوم الوطني لروسيا موعداً لإغلاق الموقع.
الأوضاع الصعبة التي عانى منها "في تايمز" ليست استثناء، فبعد إدراج موقع "ميدوزا" الإعلامي المسجل في لاتفيا في قائمة "العملاء الأجانب" في 23 إبريل/ نيسان الماضي، كشف الموقع أن كثيرًا من المعلنين أوقفوا إعلاناتهم على صفحات الموقع.
وكشفت "ميدوزا" أنها خفضت النفقات في شكل حاد، وتخلت عن مكتبيها في موسكو وريغا، وأوقفت العمل مع الكتاب من خارج المؤسسة، وقلصت معاشات الموظفين ما بين 30 و50 في المائة بسبب تراجع دخل الإعلانات التي كانت تشكل المصدر الرئيس للتمويل. وناشدت "ميدوزا" قراءها ومتابعيها الدعم المادي لمرة واحدة أو حسب الاستطاعة لتواصل عملها. وتسعى "ميدوزا" إلى البقاء اعتمادًا على تجربة صحيفة "نوفايا غازيتا" المعارضة التي تعتمد منذ سنوات في تحقيقاتها وعملها اليومي على تبرعات القراء، ولكنها أيضًا عرضة لفقدان هذا المصدر مع تصنيفها ضمن "العملاء الأجانب".
في الوقت نفسه، أعلنت إذاعة "سفوبودا"، التي يمولها الكونغرس الأميركي، يوم الجمعة الماضي، أن حساباتها المصرفية أُغلقت، بعدما زار مقرها موظفون قضائيون مسؤولون عن تنفيذ قرارات المحكمة. وتجاوزت الغرامات التي أمرت بدفعها 70 مليون روبل (نحو 780 ألف يورو).
وفي حين كشفت تحقيقات الشهر الماضي، أعدها "صندوق محاربة الفساد"، عن فساد وهدر كبير في وسائل الإعلام المدعوم من الكرملين، عبر تخصيص معاشات مليونية للصحافيين العاملين فيه، أو المعلقين ممّن يدعمون الموقف الرسمي، من خارج ملاك مؤسسات مثل "روسيا اليوم" وقنوات تلفزيونية أخرى يخصص لها مليارات الدولارات سنوياً. في ظلّ ذلك، يعاني قطاع الإعلام المستقل أو المموّل كلياً أو جزئياً من مؤسسات خاصة من أزمة خانقة زادت الأوضاع بعد جائحة كورونا من حدّتها. ومنذ أيام أعلن موقع "نيوز رو" التوقف عن العمل بعد نحو 20 عاماً بسبب الأوضاع الاقتصادية، وتوجه السلطات إلى نهج جديد في تعامل السلطات مع وسائل الإعلام منذ 2014، حسب الموقع الذي أكد أنه سوف يتوقف عن النشر مع إفساح مجال للقراء للاطلاع على أرشيفه البالغ أكثر من 17 مليون مادة إعلامية أعدها منذ انطلاقه حتى لحظة توقفه بداية الشهر الحالي.
ومع إغلاق "في تايمز" سوف يضطر عدد من الصحافيين إلى البحث عن عمل للمرة الثانية في أقل من سنة، كانت صعبة على الإعلام الروسي بسبب القوانين غير المسبوقة التي تم تبنيها من السلطات التشريعية بحق وسائل الإعلام والمدونين والصحافيين. ويبدو أن سياسة التضييق على وسائل الإعلام المستقلة، وتشويه سمعتها سوف تتسبب في إفلاس عدد إضافي من المواقع والمؤسسات لنقترب أكثر وأكثر من صحافة اللون الواحد كما كان الحال في الحقبة السوفييتية.