"عالَم" لفاندل و"أمٌّ صغيرة" لسيامّا: ثيمات أساسية بعيون الأطفال

25 فبراير 2022
"أم صغيرة" لسيّاما: العبور في الزمن عبر غابة الأشجار (الملف الصحافي)
+ الخط -

هناك تقاطعات كثيرة بين "عالمٌ" للبلجيكية لورا فاندل و"أمٌّ صغيرة" للفرنسية سيلين سيامّا، فضلاً عن كونهما من إخراج سيدتين، ومن أفضل أفلام عام 2021. فيلمان صغيران شكلاً، لكنّهما كبيران بمراميهما، حيث ينتهجان مقاربة مينيمالية، تتجلّى أولاً في القصر النسبيّ لمدّتهما (72 دقيقة فقط)، وفي اقتصادٍ في الحبكة، لم يمنعهما من تقديم طرحٍ طموحٍ وثيمات أساسية، كالتحرّش وميكانيزمات تأصيل العنف والاحتقار في المجتمع، بالنسبة إلى الأول؛ والحِدَاد والمصالحة مع الذات بالنسبة إلى الثاني. هذا كلّه من وجهة نظر أطفال، تُسائل ـ بشكلٍ انعكاسيّ بليغ ـ مجتمع البالغين.

"عالمٌ"، أول روائي طويل لفاندل. مُتفرّد بكونه يُصوّر إشكالية التحرّش في المدارس الابتدائية، من داخل عالم الأطفال، المتمثّل في فضاء "ساحة اللعب"، العنوان الدولي للفيلم، وعلى ارتفاع عيونهم. في المشهد الافتتاحي، ترفض الصغيرة نورا (مايا فاندربك) مفارقة أبيها يوم الدخول إلى المدرسة، فترتمي باكيةً في حضن أخيها الأكبر أبِلْ (غونتر دوري)، الذي يدرس في المؤسّسة نفسها. لكنّ أبِلْ سيتحوّل، شيئاً فشيئاً، من وضع المحتضن إلى ضحية تحرّش جسدي قاسٍ ومستمرّ من زملائه، أمام نورا، العاجزة والمنقسمة بين إصرار أخيها على التزام الصمت، لأنّ "أيّ محاولة لإبلاغ الأب تزيد الوضع تعقيداً" بنظره، ورغبتها في وضع حدّ للعذاب الذي يعيشه.

اعتمدت فاندل على عدسة التصوير البعيد، لالتقاط نورا وأبِلْ في الاستراحة المدرسية، ما يترك عمق الصورة ضبابياً، غالباً. فيما يُقدَّم الكبار (الآباء، المشرفون الإداريون، المدرّسون) عبر أصواتهم من خارج الإطار، أو حين تلتقطهم الكاميرا إذا قاموا بمجهود النزول إلى ارتفاع الأطفال. خيار راديكالي، يُذكّر بمقاربة المجري لازلو نَمَش، الذي قدّم في "ابن شاول" رؤية ذاتية لـ"محرقة أوشفيتز"، بالتركيز الكامل على البطل في مقدّمة الصورة، أو وجهة نظره. خلفية الصورة عند فاندل ليست مركز اعتقال نازي، بل ساحة استراحةٍ لا تخلو من ميكانيزمات التعذيب السادي، وصراع السلطة والنفوذ على من يسيطر على فضاءات اللعب، ويفرض سطوته على الآخرين. مقاربة انغماسية، تقطع مع التصوّر السائد، الذي يقارب عالم الأطفال بمنظور البراءة والسذاجة، قابضةً على رهانات، تبدو تافهة حين يلتقطها البالغون عن بُعد، لكنّهم ما إنْ ينغمسون فيها، حتى يتبيّن لهم كيف يُمكن أنْ تتحوّل حياة الطفل على إثرها إلى جحيمٍ حقيقي، من دون أن يستطيع التعبير عن ذلك، بسبب خصوصية نفسية الأطفال وحساسيّتهم المفرطة، وهذا ما يجعل التحرّش المدرسي "تابو" حقيقياً، ينبغي التعامل معه جدّياً.

في أحد أكثر تطوّرات حبكة "عالم" بلاغةً، تجد نورا نفسها أمام مفارقة قاسية: إمّا أنْ تتجاهل التحرّش الذي يعانيه أخوها، أو أنْ تتعرّض للطرد من زميلاتها، اللواتي يمارسن عليها تحرّشاً معنوياً، لا يقلّ قسوة عن الجسديّ، حين يتأفّفن من أبِلْ، ويرفضن ـ بطريقة غير مباشرة ـ دفاع نورا عنه. هذا يحيل إلى الميكانيزمات اليمينية، التي تفرض على الفئات المهمّشة التضحية بخصوصياتها الثقافية للاندماج في المجتمع، خاصةً أنّ الفيلم يتناول، خارج حقل الحكاية، موضوع البطالة، التي تعانيها الفئات المنحدرة من الهجرة، من خلال تعرّض نورا وأبِلْ للتنمّر من زملائهما، بسبب الحضور الدائم للأب إلى المدرسة، وبالتالي بطالته.

في "أمٌّ صغيرة"، تحلّ الصغيرة نيلّي (جوزفين سانز)، برفقة والديها (نينا موريسّ وستفان فاروبانّ)، في منزل جدّتها لأمّها (مارغو أباسْكال)، المتوفاة في بيت العجزة، لأخذ أغراض منه، وإخلائه. في البداية، يرتبط الصمت الثقيل ـ الذي يُخيّم على الأجواء، ويضاعفه الأثاث القليل وسكون الغابة المحيطة بالمنزل ـ بشعور الحزن على رحيل الجدّة، قبل أنْ يتّضح أنّ العلاقة بين الزوجين ليست على ما يرام، وأنّ الأمّ، ماريون، تحمل شجناً دفيناً تغرقه في فحص أغراض طفولتها رفقة نيلّي، واسترجاع الذكريات (دفاتر الدراسة، هواية بناء الأكواخ من الأغصان، الهلع من ظلال الأشجار المنعكسة على حائط غرفة النوم، إلخ).

 

 

تعتمد سيامّا، كعادتها، على اقتصادٍ في الحكي والدراماتورجيا، يظهر بموجبه ـ شيئاً فشيئاً ـ رهان الفيلم بشكلٍ سلسٍ ومرهف، بالتوازي مع تقدّمه بخطوات صغيرة ورقيقة، مثلما يمرّر الرسام الماهر ضربات فرشاة خفيفة ومتتالية على لوحته. تتمثّل ضربة المعلّم بتحويل منزل الجدّة إلى فضاء سينمائي صرف، أو إلى نوعٍ من الانتباذ الفضائي "هيتيروتوبيا" (لافتٌ للانتباه أنّ ميشال فوكو تحدّث، تعييناً، عن أكواخ الغابات، لشرح هذا المفهوم)، حيث يتعايش الحاضر مع الماضي، فيصبح عبور نيلّي ممرّاً في الغابة باتجاه حديقة المنزل (الإحالة على آليس والممرّ عبر النفق إلى عالم العجائب الزاخر بالعبر)، بمثابة سفر في الزمن، يحملها من الحاضر إلى طفولة أمّها، أو العكس.

الجميل أنّ سيامّا تتوفّق في هذا التحدّي، من دون أنْ تكترث بالصدقية، ومن دون أنْ تُضيف أي تأثيرات بصرية صارخة، كالأضواء الساطعة والممرّات الدودية، التي اعتادت كليشيهات أفلام الخيال العلمي ربطها بالسفر في الزمن. يكفي أن تلتقي نيلّي طفلةً تشبهها (غابرييل سانز)، تقترح عليها صنع كوخ من أغصان الأشجار، ليجري الانتقال من الهواية المُفضّلة للأم في صغرها، إلى زمن طفولتها. هذا الجانب اللّعوب يعبر الفيلم بأكمله، حيث الولوج إلى حقائق دفينة من باب لهو الأطفال، ليصبح الحوار المتبادل ـ بمناسبة تقمّص الطفلتين نيلّي ووالدتها ماريون طفلةً لشخصياتِ تحقيقٍ بوليسي في لعبة عرض مسرحي ـ مطيّةً للمصارحة بالأحلام المجهضة للطفولة، ويغدو الاستغراق في الاستمتاع الطفولي بإعداد الفطائر، تحضيراً للاحتفال بعيد ميلاد ماريون، وسيلةً للتصالح مع الذات، وسنّة التقدّم في العمر.

ثيمات مهمّة يتناولها "أمّ صغيرة" بذكاءٍ، من دون خطابات متضخّمة ومَشاهد صدام مفتعلة، كعادة أفلامٍ كثيرة تعاين اختلال التوازن في العائلة. بحركةٍ واحدة على محور الزمن، تُحدِث سيامّا أثراً مزدوجاً: عودة ماريون إلى طفولتها، لاستكمال الحِداد على وفاة أمها، من جهة؛ واستكشاف نيلّي طفولة أمّها، لفهمٍ أفضل لشخصية الأم، والميلانكوليا التي تخيّم عليها في الحاضر، من جهة أخرى. ولعلّ أرقّ لحظات الفيلم، وأكثرها تأثيراً، المشاهد التي نتابع فيها، ظاهرياً على الشاشة، طفلتين توشوش كلّ منهما في أذن الأخرى على سرير النوم، فيما الرهان يتمثّل بأنّ ماريون تصارح ابنتها المستقبلية نيلّي بأنّه لا ينبغي أنْ تُحسّ بأي ذنبٍ أو مسؤولية حول حزن والدتها في الآتي من الزمان، بينما تخبر نيلّي "أمّها الصغيرة" ماريون بتفاصيل من حياتها المقبلة، كالسنّ الذي ستتزوج فيه، واحتمال أن يكون الحمل بابنتها المستقبلية غير مرغوب فيه.

وسيلة حكي عبقرية وسينمائية صرفة، تتوخّى الرهافة والبساطة، من دون أن تكون تبسيطية، لكي تتمثّل ضرورة مواجهة الصدمات والعقبات المكبوتة، بغية تحقيق السلام الداخلي، وحتمية تمرير الشاهد بين الأجيال.

المساهمون