"شظايا السماء": مبحث سينمائي فلسفي نادر عربياً

03 أكتوبر 2022
"شظايا السماء" لعدنان بركة: مُغامرة بحث سينمائي عن أصل الوجود (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يخوض المغربي عدنان بركة، في وثائقيّه الفلسفي "شظايا السماء" (2022)، مغامرة البحث السينمائي عن أصل الوجود، وطرح السؤال الملحّ والأزلي حول نشأة الكون، وعلاقة الإنسان بالعالم الواسع المحيط به، من خلال ملاحظته ظاهرة طبيعية تحدث في الصحاري المغربية، التي تجلي استقطاباً حاصلاً حولها بين العِلم والميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة). استقطابٌ لم يتوقّف ـ منذ بدأ الإنسان التفكير بالظواهر الطبيعية المحيطة به، وبتلك البقعة من الصحاري المغربية ـ ويُعاد طرحه، عبر علاقات متشابكة تبدو ظاهرياً مختلفة بل ومتناقضة، لكنّها في النهاية تؤشّر إلى حاجة متبادلة لتعزيز يقين كلّ طرف بالفكرة التي يحملها حول ظواهر، مثل تلك التي تحدث أمام أنظار بدو صحراء، وبين أساتذة علوم طبيعية وطلابها، يدرسونها ويحلّلون منشأها، فيما يدفعُ وجودُها البدويَّ إلى التعامل معها بوصفها نعمة سماوية، وعطيّة يُمكن الاستفادة منها، طالما أنّها حلّت على الأرض اليباب التي يقطنها.

مبحث فلسفي كهذا قرّر بركة أنْ يشتغل عليه سينمائياً بنفسه، وأنْ يتولّى تنفيذ أكثر جوانبه التقنية (الإخراج والتصوير والمونتاج، بالتعاون مع كارين جرمان)، طالما أنّه يملك ناصيتها، والقدرة على تطويعها لفائدة رؤيته السينمائية. بذلك، حقّق أكثر شروط "سينما المؤلّف" وجوباً.

بقايا النيازك الساقطة من السماء على الأرض المغربية، المُتَشكّلة بعد دخولها الغلاف الجوي الخارجي للأرض كأحجارٍ صلدة نادرة، تُقسم بين رجلين، لكلّ واحد منهما موقف: البدوي الخمسيني محمد باخا، والأستاذ الجامعي عبد الرحمن إبهي. في زمن القحط وقلّة العشب والكلأ، يندفع محمد للبحث عنها، وبيعها لتجار وسطاء، يبيعونها بدورهم لمراكز البحوث العلمية، كتلك التي يُدَرِّس فيها عبد الرحمن طلاّبه نظرية أصل نشأة الكون، وتوظيف البراهين العلمية لتأكيدها. النيازك والأحجار الساقطة في الصحراء إحدى تلك العلامات الدالّة على صحّة نظريات علمية، تُحيل نشأة الوجود المادي إلى الشهب الساقطة على الأرض، التي تعتمر فيها نواة خلايا حيّة، تطوّرت عبر ملايين السنين إلى كائنات حيّة.

لرصد العلاقة المتشابكة بين رؤية البدوي ونظرة العالِم، تتنقل كاميرا بركة بينهما، مصحوبة دائماً بموسيقى، تُضفي على المشهد العام، المُكوّن بفعل وجود الرجلين والشهب الجامعة بينهما، غموضاً وبُعداً سرمدياً (صانع الوثائقي، إلى جانب شغله السينمائي، باحثٌ في الأصوات، عبر مشاريع SENT، المُشاركة في وضع الموسيقى التصويرية للفيلم)، تتداخل إيقاعاتها مع الحوارات الداخلية لمحمد، ومع الصورة البديعة التي تُعبّر تفاصيلها عن حيرة الإنسان وعجزه عن فهم خفايا الكون الهائل، المحيط به.

المشهد، المنقول من موقع خيمة محمد وعائلته، يفسّر قلق الرجل من موسمٍ قَلّ فيه المطر. للتعويض عنه، ينتظر سقوط "شظايا السماء". أصوات الرعد، المقبلة من خلف الجبال المحيطة بخيمته، تدفعه إلى النظر بلهفة عبر "المنظار المُقرِب" نحو الوجهة المُقبلة منها. فهناك ربما ستَسقط تلك الشهب والنيازك، وعليه أنْ يُسرع لالتقاط النافع منها للعُلَماء. توسّلاته للسماء، تُفسّرها مشاهِد توثّق عيشاً مُبتَسراً في أرض قاحلة، يُقابلها مشهد أكثر ترفاً، يظهر فيه الأستاذ الجامعي محاضِراً أمام طلابه عن نظريات نشأة الكون غير المحسومة، والمُختلف حولها حتى بين العُلَماء والفلاسفة. لعلّ النيازك والأحجار الساقطة من السماء تُعين على تثبيت رؤية مادية للعالم، تقول إنّ المادة لا تفنى، ولا تخلق من العدم. الأب، الذي يترك عائلته وابنه الصغير وحدهم أياماً عدّة، تائهٌ في لجّة البحث عن الأحجار النادرة، ولا يفكر في كلّ ما يُشغل بال العلماء. سند قناعاته يقينٌ دينيّ مُترسّخ، ولاأدرية مُطلقة.

 

 

بين العالَم الروحي للبدوي ومحيطه الطبيعي علاقة منفعية تبادلية بسيطة، يحافظ على حياديتها وعدم مساسها بإيمانه الروحي. علاقة مركّبة، تنشد مراضاةً لحاجات مادية، لا يُمكن العيش من دونها. معه، في المحيط نفسه، آخرون، يعيشون الظروف نفسها، وينشدون تلبية الحاجات نفسها. يُقرّرون البحث جميعاً عن الساقط من السماء. دليلهم يُرشدهم إلى احتمالات وجوده في أماكن بعيدة عن ديارهم، وهم يتبعون خطاه، مع بعض تذمٍّر يلازم كلّ محاولة خائبة، يخافون أنْ تكون سبباً في قطع تواصلهم مع وسيط تجاري، يظلّ قريباً منهم في ترحالهم، وبحثهم المُضني عن النيازك الساقطة في تخوم الصحراء. للوسيط خبرة في الأنواع المطلوبة، والمُختَلف تركيبها العضوي عن الأحجار العادية. عيناه لا تخطئ نقاوتها، وميزانه الدقيق يعطّل كلّ احتمالات المقايضة. كلماته حاسمة، وسعره ثابت. من دونه، لن يكون لجهدهم معنى. "تطفّله" على الجانبين لا بُدّ منه، كما لا بُدّ من مواصلة البحث، حتى العثور على ما يُبرّر المغامرة.

يعتني عدنان بركة بالعلاقة المتشابكة بين الغاية والوجود الطبيعي، عبر نقل المشاعر الداخلية للباحث، وشدّة يقينه الروحي. أكثر ما يخافه، خذلان القوّة الروحية المعتَمَد عليها في بحثه. يتشبّث بها، ويهتدي بإشاراتها. المَشهد السردي أكثره يتشكّل بصرياً من لقطات بطيئة، تلتقط حركة الأشخاص، وتراقب شدّة تفاعلاتهم مع المكان. أسلوب نقلها سينمائياً يُذكّر بمنهج المخرج التشيلي البارع باتريسيو غوزمان (1941)، ووثائقيّه الملهم "نستالوجيا الضوء" (2010). في فيلمه، جمع بأعجوبة بين الأمهات الباحثات عن أولادهن، الذين دفنهم الجنرال أغوستو بينوتشي في صحراء "أتاكاما"، والمرصد الفلكي العملاق، المُقام فوق رمالها. مُنجز التشيلي سياسيّ، كاشف انتهاكات وفظاعات. مُنجز عدنان بركة مُبتعد عن السياسة، ومُقتَرب بشدّة من الفلسفة وأسئلتها. الأسلوب البصري ـ المُجسِّد مبحثَه العميق في ثنايا العلاقات الغامضة بين الإنسان والطبيعة، بلغة بصرية شعرية ـ مُختلف ونادر عربياً، والكتابة تعجز عن إيصاله بالكامل.

إنّه بحاجة إلى مُشاهَدة حاضرة، كفيلة بمعرفة أهمية المُنجز والتمتّع بحلاوة اشتغاله السينمائي.

المساهمون