"سولا" لصلاح إسعاد: فضح واقعٍ ذكوريّ بلغة سينمائية باهرة

16 يونيو 2022
"سولا": أفضل فيلم طويل في "مهرجان مالمو للسينما العربية 2022" (الملف الصحافي)
+ الخط -

يُعيد المخرج الجزائري صلاح إسعاد (1989) كتابة جانب من قصّةٍ، عاشتها بطلة فيلمه "سولا" (2021)، بتصرّف، مُضيفاً إليها قصصاً جانبية متخيّلة. ينقل التجربة الشخصية المحدودة من واقعيتها إلى ضفة المتخيّل، القابل للتأويل والتوسّع. مُشاركة الممثلة سولا بحري في الكتابة (السيناريو) تُكرّس التفاصيل الدقيقة للتجربة، وتُبقي طعم مرارتها، الطعم الذي سيلازم مسار مُنجزٍ سينمائي، يفضح واقعاً ذكورياً رجعياً، ما إنْ يواجه سؤال المرأة، حتّى يفقد رشده، وينسى حداثويّته الهشّة.
"سولا" ـ الفائز بجائزة أفضل فيلم روائي طويل، في الدورة الـ12 (4 ـ 9 مايو/ أيار 2022) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية" (السويد) ـ ينشغل ببحثِ فكرة التصالح الذكوري الداخلي مع محيطه الرجعي، المُكرّس تاريخياً، والمُعلن عن وجوده في كلّ لحظةٍ يواجه فيها الجزائري سؤال المرأة وحريتها. لأنّه، حينها فقط، يُظهر وجهه الحقيقي، المتوافق مع واقع هيمنة ذكورية، لا تحجبها شكلانيات المُعاصَرة الزائفة.
يجعل إسعاد من السيارة مكاناً تجري فيه أكثر الأحداث التي عاشتها سولا، في 14 ساعة، في يومٍ مشحون بالتوتر والخسائر الموجعة. للسيارات وسلوكيات أصحابها دلالاتٍ، تُغني الفكرة الأساسية التي يشتغل عليها النص السينمائي، ويُلزم نفسه بتحقيق كلّ أبعادها بصرياً. في الاختيار المكاني تحدٍّ فني، قلّة من الأفلام العربية تلجأ إليه. الفيلم، في أمكنة ضيقة ومُغلقة، يحتاج إلى كاميرا ماهرة، وأداء تمثيلي بارع، يُعبّر جسدياً عن الانفعالات الحاصلة فيه، رغم قلّة المتوفّر من المساحة المساعدة على التعبير الحركي. يعتمد مخرجو الأفلام المحصورة معظم أحداثها في أمكنة مغلقة، غالباً، على القوّة التعبيرية الكامنة في وجوه ممثليهم، وسولا بحري لا تكفّ عن منح النص، الذي تعرف أسراره جيداً، المزيد من تلك القوة المطلوبة لإيصال حالة امرأة تتعرّض للاغتصاب في السيارات، ويُنتَهَك جسدها في إطار مساحة محدودة، على الكاميرا (تصوير أرثِر فونجي) الاقتراب كثيراً من تفاصليها، لتُخبر الخارج عما يجري فيها، بلغة لا بُدّ أنْ تكون مُعبّرة وقوية طول الوقت.


زمنياً، تمرّ الساعات في مراحل وقتية مختلفة (من الغسق إلى الفجر)، تشترط كلّها المحافظة على مستوى جيد من الإنارة، يتوافق مع وضوح الصورة، المُلتَقَطة بعدسات كاميرات عُلّقت، فترات طويلة من زمن الفيلم، على جوانب السيارات ومقدّماتها، والتي بفضلها زادت جماليات الفيلم، وتدفّق حيويته.
منذ طرد والدها لها من البيت، بسبب إنجابها مولوداً من خارج المؤسّسة الزوجية، تواجِه سولا آثام الأنوثة الشرقية، وتدفع ثمن حرية جسدها نكراناً مجتمعياً قاسياً، لوجودها مع مولودها "غير الشرعي". في عتمة ليلٍ، تخرج إلى شوارع مدينة موحشة، تُبيح انتهاك جسدها، وتقابل فيها رجالاً لا يرون فيها أكثر من مومس، جسدها مُستباح لهم، ما دامت أباحته لرجل آخر قبلهم. من مكان إلى آخر، تذهب لتأمين مكان، تؤوي فيه طفلتها. لكنّها، في كلّ مرة، تواجه بشراً يعاملونها ككائن منبوذ لا يستحق رحمة ولا تعاطفاً. بعد ترك طفلتها مع قريبة لها، على أمل العودة إليها بعد سويعات، يفضي بها الوقت للمضي مع أمين (إيذير بن عيبوش) في رحلته من باتنة إلى عنابة، ليمضي فيها سهرة ليلية. معه، في السيارة، سفيان (فرانك إيفري)، شابٌ عائد من فرنسا، يحنّ إلى بلده الذي تركه، ووجد نفسه يعيشُ، لحظة رجوعه إليه في زيارة قصيرة، اغتراباً.
المثلث البشري، المُشكَّل في الرحلة، يمنح "سولا" طابع "فيلم طريق"، من دون تكريس كامل للنوع. بجمعهم معاً، يريد صلاح إسعاد كشف التناقضات الحادّة في بنية الشخصية الجزائرية، وإحالة سلوكها إلى مرجعياتها الثقافية والاجتماعية، الغارقة في اعتبارات قبلية، مُغطّاة بمظاهر عصرية، يجتهد إسعاد في تفسيرها وتحليلها، وفق نظرة نقدية، تتسرّب في ثنايا نص يعتمد كلّياً على لغة سينمائية منحازة إلى الجمال الكامن فيها، والمتخلّصة ـ رغم كثرة الحوارات الجارية في السيارة ـ من كلّ ثرثرة لا معنى لها. جملهم المرتبكة، والمشحونة بانفعالات خوف وقلق، لها دلالات خاصة بالمكان، وكلّ مقطع موسيقيّ يتسرّب عبرها، ويختلط بها، يكشف عن نوازع داخلية، وميول جنسانية مكبوتة، ويفضح ماضياً ملتبساً. الاشتغال على الموسيقى، تأليفاً (نيكولا مونتاني) أو اختيارات جاهزة، يمنح النص حيوية، من دون أنْ يُقلّل من قوة التعبير البصري، المُجسّد بتمثيل بارع لأغلب الشخصيات الرئيسية والثانوية، والمُتكامل كلّه مع جهد إخراجي، يُراهن على قول الفكرة ونقل الحكاية بمَشاهد سينمائية مُشبعة بإحالات رمزية، قابلة للتأويل، تتجلّى بوضوح في مشهد إيداع سولا ابنتها إلى البحر. تُخبرها بأنْ لا مكان لها هنا، ولا مستقبل.

حادث السير الذي تعرّضت له السيارة، التي تقلّها مع الرجلين، يؤدّي إلى موتهما. خروجها حيّة، وشبه فاقدة وعيها، يضع نهايةً لساعاتٍ، كان لا بُدّ لها من وضع حدّ لمسار حيوات مضطربة وهائمة على وجهها. من المكان الضيق (في السيارات) إلى الفضاء المنفتح (البحر)، ينتقل "سولا" في لحظاته الأخيرة، للقول إنّ هناك عالماً آخر في الضفة الأخرى من البحر، ينتظر طفلتها.
هل يريد "سولا"، بهذا المشهد، تذكير مُشاهدِه برحلة خروج النبي موسى من مصر، ونجاته من بطش فرعون؟ ربما. فالمشهد الختامي قابل لتأويل مآلات حياة سولا، القابلة للتخيّل، بعد أنْ أضحت مُشرّدة في شوارع الجزائر، تعيش ما تبقى لها من حياةٍ على حافة الجنون

المساهمون