"خادمة"... امرأة ترفض التماهي مع أريكتها

15 نوفمبر 2021
أم عزباء فضلت العمل خادمة على العيش مع زوج معنف (نتفليكس)
+ الخط -

مسلسل "خادمة" Maid الذي عُرض أخيراً على منصة "نتفليكس" مبني على قصة حقيقية، فهو مقتبس من كتاب "الخادمة: العمل الشاق والأجر المنخفض وإرادة الأم للبقاء على قيد الحياة" الذي نشرته الكاتبة الأميركية ستيفاني لاند عام 2019، لتجمع فيه مذكراتها وتصف رحلتها كأم عزباء فضلت العمل خادمة والاستقلال على الاستمرار في تجربة الزواج مع رجل يعنفها، ودفعها طموحها الفردي إلى الالتحاق بالجامعة عندما بلغت الثانية والثلاثين من عمرها. 
إلا أن "خادمة" لا يمكن تصنيفه ضمن خانة المسلسلات الواقعية، فهو تعبيري، على غرار المسرحيات والأعمال الدرامية التي كانت دارجة في بدايات القرن الماضي؛ ففيه تتلاشى الحدود بين الواقع والعوالم المتخيلة التي يرسمها بطل العمل الدرامي، لتصنع صوراً شعرية ورمزية تعكس الواقع بمنظار عاطفي.

يتكون المسلسل من عشر حلقات، ويتمتع ببنية درامية خاصة تختلف عن كل المسلسلات المقتبسة عن أدب السيرة الذاتية، فلا يعتمد على الـ"فلاش باك" والسرد وانعكاساته المرتجعة على الحكاية بشكل مفرط، كما جرت العادة، ولا تمضي الأحداث بزمن خطي يرصد رحلة الحياة من الطفولة إلى ما بعد تكون الوعي، بل يبتكر بنية خاصة تستفيد من مدارس فنية مختلفة؛ إذ قًسم المسلسل كبنية إلى قسمين متناظرين، يكون القسم الثاني فيه أشبه بإعادة للجزء الأول، على غرار البنية الدرامية التي ابتكرها سامويل بيكيت في مسرحية "في انتظار غودو" التي كُرست في مسرح العبث.


لكن الجديد في مسلسل "خادمة" أن البنية الدائرية التي كان مسرح العبث يستخدمها للتعبير عن عبثية الحياة واللا جدوى ضمن وعي ثابت لا يتغير قد أعيد تدويرها، في سياق أقرب للواقعية، فتكرار الأحداث والعلق ضمن دوامتها لا يسطح الشخصيات ويجعلها تفقد القدرة على مراكمة الخبرات والمعرفة.  فعلياً يصعب العثور على نموذج سابق في أشكال الحبكة الدرامية مطابق لما نشاهده في "خادمة"، لكن الطريقة التي رسمت بها الحكاية تبدو شبيهة بالنموذج الذي طوره بيير بورديو في دراساته في علم النفس الاجتماعي، حول تكوين الشخصية، الذي أخذه عن فلسفة دوركهايم الاجتماعية، ونقصد بذلك "الهابيتوس" (L'HABITUS). المسلسل بنقطة مركزة، ومن خلال حكاية يوم عصيب تعيشه بطلة الحكاية "أليكس". تتكوّن الدائرة أو الحلقة الأولى من مستوى الإدراك، ومع تتابع الأحداث تنشأ الدوائر المحيطة بها التي رسمها بورديو على شكل دوامة، تبدأ بنقطة مركزة في اللاشعور وتتوسع دوائرها نحو الخارج ليتكون الإدراك ويتوسع. 
تطبيق نموذج "الهابيتوس" على الحبكة الدرامية أمر مبتكر بلا شك، لكنه لا يخلو من بعض النقاط السلبية؛ ففي حين تبدأ حكاية "مايد" بشكل مثير ومكثف، لتختصر وعي الشخصية بنقطة مركزة قادرة على جذب الجمهور، فإن توسع هذه النقطة وعملية تكون الإدراك وتطوره لا تحمل ذات الجاذبية الدرامية. لذلك، ستنخفض الإثارة في المسلسل مع تقادم الحلقات، لنستمتع بحلقة أولى مكثفة تنتقل فيها "أليكس" بيومها العصيب من حال إلى حال، لتتحول من امرأة متزوجة مرغمة على تحمل التعنيف، إلى أم عزباء تعمل خادمة بشروط غير إنسانية، لأن عملها خادمة هو فرصتها الوحيدة لتنال قسطاً من الحرية والاستقلالية المنعدمة في بيت زوجها. 

الظرف الدرامي يُستثمر على أفضل نحو في الحلقتين الأوليين

هذا الظرف الدرامي يُستثمر على أفضل نحو في الحلقتين الأوليين، إلى أن يكتمل رسم الدائرة المعرفية الأولى التي تنتهي بفقدان "أليكس" حقها بحضانة ابنتها، لتبدأ بعدها رحلة أقل إثارة مع تكوين الإدراك وتطويره خلال رحلة "أليكس" وعملها خادمة. يستمر الإدراك بالتوسع إلى أن تصل "أليكس" إلى نتيجة، مفادها أن عملها كخادمة واستسلامها لسلطة المجتمع الرأسمالي لا يجعلها بمكانة أفضل عن رضوخها لسلطة زوجها، وما يمثله من أفكار ذكورية بطريركية وبقائها كخادمة في منزلها. هكذا، يُمهد للقسم الثاني من المسلسل الذي يحمل البنية نفسها، لكن الفارق أن الدائرة المركزة الجديدة مبنية على إدراك ووعي الماضي، لتبدأ "أليكس" رحلتها الجديدة بالتمرد على المجتمع الأبوي وهي واعية لخطورة الرحلة، وتستفيد بعض الشيء من خبراتها وتجاربها؛ ليساهم تراكم الخبرات برسم نهاية أفضل للحكاية المكررة نفسها.

هذه البنية الفريدة تعيد إنتاج الدراما التعبيرية والرمزية بخفة، لتنتج مجموعة من الخيالات والصور التي لا تفصلنا عن الواقع سوى للحظات معدودة. الجدير بالذكر أن العديد من الخيالات التعبيرية التي نشاهدها على الشاشة تبدو مستمدة من عروض مسرحية أميركية كلاسيكية تعود للنصف الأول من القرن العشرين، عندما كان رواد الواقعية الأميركية متأثرين بالتعبيرية الألمانية، فنجد بعض اللمحات من مسرحيتي "موت بائع متجول" لآرثر ميلر و"الإله الكبير براون" ليوجين أونيل. 

إلا أن أجمل الخيالات التي تعيشها "أليكس" هي التي تبتعد فيها عن الحوارات الكلاسيكية وتختزلها بالصور الشعرية الرمزية، منها المشهد الفاصل بين قسمي المسلسل، حين تتماهى "أليكس" مع الأريكة التي تجلس عليها بعد عودتها إلى العبودية في بيت زوجها، لتدرك أن رضوخها حولها إلى مجرد شيء عديم القيمة خارج المكان، كالأريكة التي تجلس عليها؛ لتقرر بعد ذلك العودة إلى عملها في خدمة المنازل والانخراط في مستنقع المجتمع الرأسمالي الذي يحولها إلى ماكينة، لكن من دون التخلي عن الحلم بالارتقاء والتطور؛ ليكون العمل هذه المرة هو بوابة لتكوين الذات الواعية المختلفة، فسعت "أليكس" من خلال الهوامش التي يوفرها إلى إيجاد مساحة خاصة تستثمرها للارتقاء؛ وهو ما تحقق عندما نجحت بالدخول إلى الجامعة وتغيير مجرى حياتها بعد أن أصبحت أماً عزباء في الثانية والثلاثين من عمرها.  

المساهمون