جسّد مسلسل "المنصة" صراعات مختلفة يعيشها الإنسان المعاصر، في 12 حلقة درامية مكثّفة، بدءاً من قسوة تكنولوجيا المعلومات وصراعاتها والإعلام الإلكتروني والشبكات العالمية المتورطة بعمليات إرهابية في الشرق الأوسط، وصولاً إلى حرارة العلاقات الإنسانية والحب والمنفى والتفكّك الأسري والعنف.
الجزء الأول من مسلسل "المنصة"، الذي بثته "نتفيلكس" قبل سبعة أشهر، كان عملاً فنياً متوسط المستوى، فيه من الإيجابيات بقدر ما فيه من السلبيات؛ إذ كان قائماً في الأصل على فرضية غير متماسكة حول منصة مستقلة تملك قدراً هائلاً من المعلومات الموثوقة وتحاول العديد من القوى المجهولة اختراقها، إلاّ أنّ كلّ ما يحدث ضمن فضاء المنصة ومقرها لم يكن مقنعاً البتة، فلا يتوافق شكلها ومكانتها مع لغة الشخصيات والأفكار التي يتم تداولها فيها. وفي المقابل، كانت الأحداث في المسلسل تسير بشكل أفضل كلما ابتعدنا عن المنصة ودخلنا بتفاصيل حياة مؤسسها "كرم" وعلاقاته الشخصية مع أسرته ومحيطه، لينجح المسلسل في هذا الجانب بخلق دراما بنسق تصاعدي، وينتهي الجزء الأول نهاية موفقة ومشوقة، بعد أن يقع مؤسس المنصة "كرم" في الفخ الذي نصبه له أخوه، الذي يتزعم مجموعة إرهابية في إحدى المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام.
ربما كانت اللحظة الدرامية الجيدة، التي نجح الجزء الأول بالوصول إليها في نهايته، قد حفزت على إنتاج جزء ثانٍ بعد أشهر قليلة فقط، حُشد فيها المزيد من نجوم الدراما السورية، لكنّ النتيجة كانت مخيبة للآمال، حتى بالنسبة لأنصار الجزء الأول من المسلسل؛ إذ نُسفت في الجزء الثاني معظم الخطوط الدرامية الجيدة التي جرى بناؤها في الجزء الأول، وأضيفت خطوط جديدة لم تنجح بتطوير الحكاية الأصلية قيد أنملة؛ لتمضي الحلقات الثماني التي يتكون منها الجزء الجديد ثقيلة وغير مقنعة، ونشهد فيها هبوطاً حاداً في سوية العمل. ولا يمكن أن نعزو السبب فقط إلى استبدال المخرج الألماني رودريغو كريشنر، بالمخرج المصري ياسر سامي، فالمشكلة الأساسية كانت وما زالت في نص هوزان عكو.
يحاول "المنصة" في الجزء الثاني أن ينسج حكاية تخالف كلّ التوقعات التي خرجنا بها بعد انتهاء الجزء الأول، لتسير الحكاية وفقاً لخط غريب، يقتنع "كرم" (مكسيم خليل) بنهايته أنّ أخاه "آدم" (سامر إسماعيل) هو ضحية بدوره أيضاً، ليتشاركا رحلة الهروب من الفخ الذي دخله "كرم" على يد أخيه. فعلياً، مشكلة حبكة "المنصة 2" لا تكمن في هذا التحول بالمسار، إنّما في ما ينجم عن هذا التحول من مفارقات وتضاربات مع المعلومات التي حصلنا عليها في الجزء الأول؛ إذ إنّ هوزان عكو انتقى ما يحلو له من الأحداث السابقة وتخلى عن أحداث أخرى ليبني عليها الحكاية الجديدة! لكنّ المشكلة الكبرى تكمن في أنّ هذه الحكاية الجديدة غير مقنعة إطلاقاً، حتى لو تعاملنا معها بشكل منفصل تماماً عن الجزء الأول؛ فهي مليئة بالأخطاء والثغرات الدرامية، وتتداخل بها خطوط لا داعي لوجودها، بل جرى تركيبها لإقحام أكبر عدد من النجوم من دون أن تربط بشكل جيد.
يرسم "المنصة 2" النظام السوري باللون الأبيض كأنّه الخير المطلق، في حكاية تحولت فجأة إلى صراع تقليدي ما بين الخير والشر، بعدما كانت في الجزء الأول أكثر جاذبية، حين كان اللونان الأبيض والأسود فيها يتشابكان لتتلاشى بينهما الحدود. وبالنسبة لمؤسسات النظام السوري وأفرعه الأمنية، فيجري تصويرها في الجزء الجديد كنموذج فائق للمثالية؛ فالسجون أشبه بأجنحة الفنادق، وعناصر الأمن يملكون أخلاقاً رفيعة يبذلون قصارى جهدهم لحماية الناس، والأحكام القضائية في أفرع الأمن تتم ضمن معايير إنسانية فائقة، حيث لا يتعرض السجناء للتعذيب، بل يُمنحون الحق باختيار نوع المحاكمة؛ ليتم تبرير مشهد الإعدام بأنّه كان تلبيةً لرغبة "الإرهابيين".
هذه الصورة المثالية الفائقة لأجهزة الأمن السوري، تتفوق بمثاليتها على كلّ ما ورد سابقاً في إنتاجات النظام الرسمية؛ التي غالباً ما كانت تترك ضمن الأجهزة الأمنية هامشاً للفساد لتبرير الأخطاء. وخطورة ذلك تكمن بأنّ هذه الصورة قد تم تقديمها عبر مسلسل من إنتاج غير محلي وبمشاركة ممثلين معروفين بمواقفهم المعارضة مثل مكسيم خليل. المشكلة أنّ هذه الصورة يتم تبريرها في المسلسل من خلال أحداث راهنة شائكة، ليجري استثمار الأزمة التي عاشها الإسلام السياسي في أوروبا مؤخراً في خدمة مصلحة النظام السوري.
بطل المسلسل هو شخص ضعيف، يلقي بنفسه في عرين الأسود لكنّه ينجو دائماً، لا يعتمد بالنجاة سوى على المعلومات التي يملكها في منصته الرقمية، والتي سيؤدي كشفها إلى انهيار الجميع. فعلياً لا يمكن فهم طبيعة المعلومات التي ستضرّ الجماعات الإرهابية إذا ما نشرت، لكن إذا ما تصالحنا مع الفكرة، فما هي البيانات التي تملكها المنصة ولا يملكها أحد آخر، وكيف تملك المنصة معلومات عن كل شيء وفقاً لإمكانياتها؟
في إحدى الحلقات، يظهر فجأة "يوتيوبر" إماراتي، يهاجم المنصة ويسخر منها ويتوعد بفضح أساليبها اللا أخلاقية في الوصول للمعلومات. بعدها، يجتمع فريق المنصة لمناقشة هذه الأزمة، ووفقاً لبياناتهم يصلون لهذه المعلومات عن "اليوتيوبر" الشهير: "إنّه يوتيوبر غير معجب بالمنصة"! ليثبت هذا الاجتماع صحة كلام "اليوتيوبر": "المنصة لن تمنحك معلومات أكثر من غوغل". فكيف لمنصة كهذه أن تكون هدفاً لكلّ هذه الجهات المتصارعة؟ وهل هناك نموذج لتكنولوجيا المعلومات حول العالم شبيه بهذه المنصة المتخيلة؟
هناك حكاية مضحكة خالدة في ذاكرة السوريين، ما زال يتردد صداها منذ انطلاق الثورة السورية حتى اليوم، عن "فلاشة" كان علي شعيبي يلوّح بها على شاشة قناة "الدنيا" كأنّها سلاح يمتلكه، ويدّعي أنّها تحتوي معلومات خطرة إن كشفها سيتضرر كثيرون من الخونة وأعداء النظام. فعلياً، "فلاشة شعيب" الشهيرة هي أقرب نموذج لـ"المنصة" من الواقع الذي نعرفه؛ فهي ليست سوى سلاح رقمي يملك معلومات مدمرة لن يتسنى لنا كمشاهدين معرفتها خلال جزأين، وسيبقى ما بها سراً دائماً، تماماً مثل "فلاشة شعيب".