"أبناء سام"... ملاكٌ مهووس في إثر طائفة شيطانية

21 مايو 2021
رغم اعتراف ديفيد بيركوفيتز بالجرائم، هناك نظرية تقول إن طائفة سرية تقف وراءها (Getty)
+ الخط -

بثت شبكة نتفليكس، أخيراً، وثائقياً من أربع حلقات، بعنوان "أبناء سام" (The Sons of Sam: A Descent Into Darkness). تتناول السلسلة سيرة القاتل المتسلسل ديفيد بيركوفيتز. ما يجعل هذه السلسلة مختلفة عن الأخرى التي بثتها نتفليكس، وتتناول فيها قتلة آخرين، هو أننا نتعرف إلى قضية ديفيد من خلال جهود الصحافي موري تيري، الذي أصابه هوس بجرائم القتل العشوائية التي انتشرت في نيويورك في أواسط السبعينيات، وخالف نتائج تحقيقات الشرطة، "مؤمناً" بأن بيركوفيتز ليس المسؤول عن كل الجرائم.
يصف البعض الوثائقي بأنه anticlimactic؛ أي في كل لحظة نظن أننا وصلنا إلى أوج "الصراع" واكتشاف ما هو جديد، تصيبنا خيبة أمل. وهي المشاعر ذاتها التي راودت تيري أثناء انتقاله من عمله في شركة معدات تقنية، إلى صحافي استقصائي يلاحق سلسلة من الجرائم الغريبة. ونقول غريبة لأن لا تفسير لها حسب الشرطة، إذ كانت الشابات والشبان يقتلون من دون أي سبب، أشبه بقتل عبثي لا طائل منه.
حسمت الشرطة الأمر حين ألقي القبض على ديفيد، واعترف بارتكابه الجرائم الـ11. لكن موري لم يقتنع بذلك، وتابع تحقيقاته لكشف تورط آخرين. وفي مقابلة حصرية مع ديفيد، تمكن موري من إثبات ادعاءاته عبر اعترافات القاتل الجديدة، التي يؤكد فيها وجود شركاء له في الجرائم، بل أشار إلى أن بعض الجرائم مسجلة لصناعة أفلام منحرفة. كل هذه الاعترافات سبق لموري أن كشفها في كتاب "أقصى الشر: تحقيق في أشد الطوائف الشيطانية في أميركا خطراً"، الذي ألفه بعد سنوات من بحثه في قضايا القتل السابقة، لكن للأسف لم يؤخذ موري على محمل الجد.


الاستخفاف بموري هو ما يحاول المسلسل الإضاءة عليه، فالأخير ألف كتاباً شرح فيه أن هذه الجرائم ليست إلا جزءاً مما ارتكبته منظمة شيطانيّة تنشط في الولايات المتحدة، تحمل اسم "الأطفال" The Children. وكشف أيضاً أن لها تاريخاً مشبوهاً مع جماعات أخرى، وأكد أن القاتل تشارلز مانسون ينتمي إليها، وأن عمليات القتل العشوائية لم تكن تصرفاً فردياً، بل جزءاً من خطة وطقوس شيطانية تمارسها هذه "الطائفة"، كان من المتورطين فيها جارا ديفيد، اللذان قتلا لاحقاً. كل ما سبق تجاهلته الشرطة كليّا، ومن صدقوه لم يستطيعوا إثبات أي شيء جديد، خصوصاً بعدما تحول موري بسبب ظهوره المتكرر على وسائل الإعلام إلى ما يشبه المهووسين بنظرية المؤامرة.

نقف في الوثائقي أمام حقيقتين؛ الأولى رسمية، قانونيّة، ترى أن الجرائم نتاج شخص مضطرب عقلياً، والثانية حكائيّة، نتاج جهد فرديّ، تراهن على أن القاتل ليس إلا جزءاً من منظمة شديدة السرية والصرامة

نقف في الوثائقي أمام حقيقتين؛ الأولى رسمية، قانونيّة، ترى أن الجرائم نتاج شخص مضطرب عقلياً، والثانية حكائيّة، نتاج جهد فرديّ، تراهن على أن القاتل ليس إلا جزءاً من منظمة شديدة السرية والصرامة، تقتل كل من يحاول كشف أمرها، وهذا ما نلاحظه في نهاية الفيلم، حيث انتحر واحد من المشتبه بهم بعد ما يقارب الأربعين عاماً، بمجرد أن حاولت الشرطة استجوابه في منزله، بعد شكّها بارتكابه جريمة قتل ترتبط بتحقيق موري. المأساوي في الفيلم هو أسلوب التعامل مع الجريمة في الولايات المتحدة، وتدخل الإعلام الدائم لتحقيق عدالته المفترضة، ما حول موري إلى ما يشبه المهووس ناسفاً مصداقيته، ومروجاً لنظرية شيطانيّة لا تقبل التصديق. وعلى الطرف المقابل، تحاول الشرطة أن تغلق القضية دون أن تثير الفزع، الأمر الذي يدفعنا نحن أحياناً أثناء المشاهدة للميل نحو تصور موري، والمؤامرة السريّة التي يتحدث عنها.

الأثر الحكائي أكثر إقناعاً من ذاك الرسمي والقانونيّ، لكن هنا تكمن مشكلة الحكاية، فحين تنتقل إلى العلن عبر وسيط مختلف عن ذاك القانوني المتمثل بالدليل والطب الشرعي، والرأي المختص، تتحول إلى ملك للجميع، والكل قادر على الإدلاء برأيه، وتتهدد الأدلة أمام تقنية الحكاية نفسها، وكيفية تلقي الإعلام لها؛ فأن نشاهد موري إلى جانب السحرة والمشعوذين على الشاشة، فذلك يحوله إلى ما يشبه المهرج لا الباحث عن الحقيقة. الإشكالية في كافة النظريات التي تتبنى فكرة وجود جماعة سريّة أنها تراهن على هذه السرية نفسها والأدلة الظرفية لإثبات وجهة نظرها، ما يعلق الاهتمام والتصديق لدى المشاهد وحتى لدى رجال الشرطة أنفسهم.

وهذا بالضبط ما كان مشكلة موري: هوسه الذاتي ويقينه بالحقيقة يعميانه عن الحيثيات الأخرى، التي تشكل كتلة من "الحكايات" القادرة على إبطال حجته وحكايته. هذه المفارقة هي بالضبط ما يمكن أن يحول أي فكرة إلى نظرية مؤامرة أو يثبت أنها واقع معيش ومختبر.

المساهمون