"آرتشر": مسرحة عالم الجاسوسيّة

10 يناير 2022
بثّت شبكة "نتفليكس" أخيراً الجزء 12 من المسلسل (نتفليكس)
+ الخط -

لا يمكن إنكار الشهرة التي وصل إليها مسلسل الكرتون الشهيرة "آرتشر"، خصوصاً أنه يقدم لنا صورة مسرحيّة عن حياة الجاسوسية، ونسخة أشد واقعيّة وتهكُّماً من تلك التي تتجسد في شخصيّة جيمس بوند. آرتشر يعمل لصالح شركة أمه، يصرخ دائماً منادياً إياها، مخموراً أغلب الوقت، أخرق، يتعرض للجروح والكدمات بشكل دائم، وفي كل مهمة لا بد أن يُطلق عليه النار. بثت شبكة "نتفليكس" الموسم 12 من المسلسل الذي تزامن العام الماضي مع بث الجزء الأخير من جيمس بوند "لا وقت للموت"، أو على الأقل الجزء الذي سيكون الأخير لدانيل كريج الذي أدّى الشخصية على مدار سنوات. والمفارقة في هذا الموسم من آرتشر، هي أنه استيقظ من غيبوبته التي دخل بها العام الماضي، أي "مات" نوعاً ما، وعاد إلى الحياة، ليتفاجأ بأن المنظمة التي تحتفي به وتديرها والدته قد أفلست. 
الملفت في عودة آرتشر هو أن موته، بالمعنى الثقافي والأوسع، يختلف عن موت بوند الذي لن يؤديه رجل أبيض في الفيلم المقبل، كما أنَّه استبدل في الجزء الأخير بامرأة بدءًا من منتصف الفيلم. فـ"موت" آرتشر سببه شكل العصر نفسه، الموت الفيزيائي لا يعنيه، لكن ما يصيبه في عمق تكوينه هو أن الجاسوسية لم تعد كما كانت سابقاً، أي التنكُّر والتخفي والانتقال من مكان إلى آخر في الليل. جواسيس العصر الجديد يجيدون استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات شديدة التطور. كما أنهم لا يعملون سراً بحثاً عن أعمال قذرة، بل هناك موقع يستشيرونه لتحديد العمل الأنسب. هذه التغيرات تهدد مهنة آرتشر، وأسلوب عمله القائم على إطلاق النار على الجميع، ثم التفكير في المهمة. 

المفارقة الأشد بين بوند وآرتشر تكمن في الانتماء. بوند يعمل لصالح "الملكة البريطانية"، في حين أن آرتشر يعمل لمصلحة منظّمة تتعاقد مع الحكومات. وحين أفلست المنظمة، تحولت إلى شركة خاصة يتدخل مديرها في كلّ شاردة وواردة، ويوظفها أحياناً لمصالحه الشخصية. وهذا بالضبط ما يشبه الشركات العسكرية الخاصة أو المرتزقة، تلك التي تعمل أحياناً لمصالح شخص واحد لا حكومة.

آرتشر هنا يسخر من الحرب الحالية ذاتها، حيث المعلومات لم تعد أسراراً، ويكفي وجود شخص يمتلك المال لاستحضار المهارات وتنفيذ ما يريده. الأهم أن هذه المهارات لم تعد تتعلق بمهمات عسكرية واستخباراتية، حيث تتورط المنظمة التي يعمل فيها آرتشر ضمن العمل الإنسانيّ. إذ نراه وفريقه في إحدى الدول الأفريقية لإنقاذ غوريلا، كخطوة نحو تحسين صورتهم، الأمر الذي ينتهي بالطبع بسخرية، لكنه يكشف عن شكل الشركات العسكرية التي تبنت الذنب العالمي وحولته إلى أسلوب لتبييض وجهها. 

بوند يعمل لصالح "الملكة البريطانية"، في حين أن آرتشر يعمل لمصلحة منظّمة تتعاقد مع الحكومات

الملفت هي أننا نتعرف في هذا الموسم على بداية آرتشر، وكيف دخل عالم الجاسوسية. نخوض قليلاً في حكايته الخاصة، وكيف كان شاباً وتحول إلى رجل بعد أن خسر حب حياته، لكن بالطبع هذه الحكاية لا بد لها أن تكون ساخرة، فنحن أمام شخصيات عدمية لا تقيم لعلاقتها الخارجية قيمة، ما يهم فقط هو الفريق الحاضر كلياً في عالم الجاسوسية المصغّر الذي تديره أسرة لا يمكن تفكيكها بسهولة. بل إن بعض المعلقين الثقافيين يرون أن آرتشر مثال على الطفل الذي لم يفطم، يصرخ ويبكي دوماً منادياً أمه لتخرجه من المشكلات. وبالرغم من أنه "أب" الآن، لكنه لا يلعب هذا الدور، وكأنه ما زال متعلقاً بوالدته التي تتابع كل خطواته مترنحةً.

المساهمون