ليونارد كوهن... شكراً على تلك الرقصة الأخيرة

08 ديسمبر 2019
رُفع الألبوم على منصّة يوتيوب وسُمح بتداوله بالمجان (Getty)
+ الخط -
"التروبادور Troubadour".. اسمٌ لطالما ورد عند الحديث عن الشاعر والموسيقي الكندي الراحل ليونارد كوهن (1934 - 2016). والتروبادور هو ذاك الشاعر المتجوّل الذي يروي عن الحب ويغني ويعزف له في ربوع جنوب أوروبا زمانَ عصورها الوسطى. بعض الاجتهادات تُرجِع أدب التروبادور إلى عرب الأندلس، فيما أخرى ترى له أصولاً كلتية وثنية، ومسيحية صوفية، وإحيائية أفلاطونية.

أما تروبادوريّة كوهن فحداثية، شعريّته ترسم حدوداً إزاء المادية من حولها. عُزلته حميميّة تحجب عن ساكنها ضوضاء المُدن، تأملية وجدانية تبحث عن الحب في عصر السلعة وعن الحقيقة في عصر السرعة. الكلام والألحان والأفكار المُرسلة مصدرها إنسانٌ مُعاصر يعيش وحيداً، يعشق وحيداً، ويُفكّر وحيداً. ما الوجود من حوله سوى انعكاس نورٍ جُّوانيّ، أشبه بأضواء تتلألأ في بركة ماء على إسفلت الطريق عقب ليلة شتوية ماطرة.

إضافة إلى صفة التروبادور، سبق لشركة إنتاج تعامل معها كوهن أن أطلقت عليه لقب مؤرّخ اليأس، نظراً إلى سوداويّة كانت تُسمع نشازاً في حقبة الستينيات التي عجّت بجُمل الوعد والحلم والحرية، والأمل بنعيم ورخاءٍ اقتصاديين، وعصفت بلياليها طبول موسيقى الرقص الحامي؛ من 'سوينغ' إلى 'تويست' و'روك أند رول'، لذا، وعلى الرغم من أن تروبادوريّة كوهن قد سبقت بوب ديلان بعقد، مع ذلك، ظلّت أبواب السوق الأميركية في وجهه موصدة حتى منتصف السبعينيات، عشيّة إصدار أغنية First, we take Manhaten. أما على ضفة الأطلسي المُقابلة، ظلّت أوروبا، والتي كانت حينها لا تزال تُزيل عنها ركام الحربين، أكثر تقبّلاً لكآبة كوهن، فحظي هناك بسُمعة مرموقة، ونجومية مّتألقة، وشُهرة فنية واسعة.

كوهن في الأساس شاعرٌ وليس موسيقياً، دخل الغناء والعزف من باب الصدفة بقصد كسب الرزق. قد نبّهته والدته حين كان يافعاً إلى مغبّة امتهان الشعر بُغية العيش الكريم؛ كالمُستجير من الرمضاء بالنار، قرر وبناءً على نصيحة المُغنية الأميركية جودي كولنز Judy Collins أن يُلحّن أشعاره بنفسه ويُغنّيها، ويُرافقها على غيتاره بمُفرده. أتى صوته، غير الحلو ولا المُدرب، ساحراً صادقاً، وصار رافعاً خاصاً لقصائده، ومرسالاً شخصياً للشفّاف والحسّاس فيها، فالأغنية، بحسب كوهن، إن عاشت حتى العشرين سنة تثبت بذلك أنها حقيقية.

أثناء مسيرة نضال كوهن في سبيل كسب رضى إحدى الشركات عن تسجيل واحدة من روائعه الخالدة وهي أغنية 'راقصني حتى نهاية الحب ’Dance Me To The End Of Love قال له وقتها مُدير شبكة CBS عقب سماع مسوّدة الأغنية؛ "نعلم أنك عظيمٌ يا ليونارد، لكننا لا ندري ما إن كنت ستُجدي لنا نفعاً!".

في الأخير، كسب كوهن الرهان وصار أيقونة فنية، من دون أن يتنازل عن الكثير، سواءً من ظاهره أو من باطنه. حتى رحيله، ظل يعيش في مسكنه المتواضع حدّ الشظف في مونتريال، في حال لم يكن في تجوال يُحيي الأماسي الفنية، أو مُعتكفاً في مُعتَزلٍ له إما في كاليفورنيا أو على جزيرة متوسطيّة، يكتب قصيدة أو يُسجّل أغنية جديدة.

You Want It Darker من إصدار عام 2016 كان آخرُ ألبوم سجّله ليونارد كوهن لمصلحة شركة 'كولومبيا Colombia Records' قبل نحو تسعين يوماً من رحيله. وقتها، حصد الألبوم أفضل المبيعات واستأثر بحماسة واستحسان النُقاد.

مؤخراً، أصدر مُنتجه وابنه، آدم كوهن Adam Cohen ألبوماً مُقتضباً تقلّ مدته عن النصف ساعة بعنوان 'شكراً على الرقصة Thanks for The Dance' بُنيَ على بِضع قصائد سجلها كوهن الأب بصوته العاري خلال العمل على ألبومه الأخير، لم تُعد تُلحّن ولم تندرج ضمن الإصدار.

بهذا، يكون Thanks For The Dance ألبوماً آخر هذا العام يُوزّع عقب رحيل الفنان، في ظاهرة أصبحت تقليعة تُتيحها أنماط التسجيل والإنتاج الحديثة التي يسّرت حفظ المواد الصوتية واقتناءها ومن ثم مُعالجتها والإضافة عليها بُغية إعادة تسجيلها وإنتاجها. من يدري؟ ربما سيشهد الجمهور في المُستقبل القريب ليونارد كوهن، وقد بُعثَ إلى الحياة من جديد، مُسقطاً بتقنيّة الهولوغرام وفق صورة تُمكّنه من أداءٍ حيٍّ لأغانيه بعد رحيله. تسويقياً، وفي بادرة تبدو كما لو أنها تُبعد الإصدار عن أي شبهةِ تربّح من وراء إرث النجم الراحل، رُفع الألبوم على منصّة يوتيوب، وسُمح بتداوله بالمجان.

إلا أن رهان المُنتج، آدم كوهن، يبدو وقد أصاب، وأنّ مجهود طاقم فريق الموسيقيين والمهندسين، ومنهم أصدقاءٌ مقرّبون وشركاء سابقون لـ كوهن الأب وللعائلة قد أتى أُكله، ليتكلل الألبوم بنجاح قل نظيره بين ألبومات موضة الـ Posthumous أو 'إصدارات بعد الوفاة'، ولينضم بذلك عن استحقاق وجدارة إلى الروائع الفنية التي أنتجها كوهن في حياته، وخلال مسيرته الفنية التي استمرّت خمسين عاماً.

What Happened To The Heart فاتحة الألبوم. صوت كوهن يُسمع عن قربٍ تناهى حتى بدا كمن يتحدّث إلى الأذن عبر 'سكايب Skype' أو 'فيس تايم Face Time'. ما عدا جملة 'ماذا حلّ بالقلب'، لا يستند صوته على أي لحنٍ يحمله، الأمر الذي سهل أمام آدم كوهن إدخال العناصر الهارمونية من غير مهابة عدم التوافق والائتلاف، إن كان ذلك إيقاع غيتار، أو زخرفة عود، أو خيوط وتريات تُضيء الخلفية، كلها أتت إضافات حميمية من صميم روح كوهن وخامة حنجرته الليلية.

Moving On بعد مُقدمة لآلة 'الماندولين'، يتابع الغيتار برفقة لمساتٍ إلكترونية كوقع الدمع أو حبّات المطر، يتحدث كوهن عن القبول بالهجران ومن ثُم 'المُضيّ قُدماً'. في 'ليل سانتياغو The Night Of Santiago' أجواءُ الغرب الأميركي، تُجسدها آلة الغيتار بأوتارها الداكنة المُنخفضة، يصف كوهن مشهد حُبٍ شبِق. عقب نقلة 'فلامنكو'، كأن الأغنية تعبر حدود الصحراء نحو أرض المكسيك، يأخذ كوهن عشيقته "إلى النهر، كما يفعل كلّ رجل".

Thanks for the Dance حاملة عنوان الألبوم، الأغنية تفيض بروح كوهن كما لو كان يغنيها اللحظة بصُحبة الغيتار وجوقة المُنشدين وفرقة عازفي الأبواق النُحاسية. وإن خاطب 'كوهن' المرأة، كما هي العادة، شاكراً لها مُشاركته للرقصة، إلا أنه وفي المجاز، كأن به ههنا يُخاطب الحياة برمّتها.

في It’s Tom يصوّر جمال المرأة وحُسنها على وقع طبول تُقرع وائتلافات توحي بالرهبة والترقّب والقليلٍ من كآبة، أما في 'الهدف The Goal' يُحاكي النسيج الهارموني المُثبّت بضرباتٍ على مفاتيح البيانو عمق الكلمات وذاتيّتها: "أنا بالكاد حيٌّ، بالكاد عُدتُّ، لا مُعلّمَ أتبعه، ولا شيءَ أُعلّمهُ، سوى أن الرمْية في الأخير لم تُدرِك الهدف".

'دُمى Puppets' مُشاهدة فلسفية لمسرح التاريخ البشري وعدم قدرة الإنسان على الخروج من دائرة الشر. أما 'القمم The Hills' ففسحة تفاؤلية على إيقاع البلوز المُتمهّل برفقة جوقة نشطة من الأصوات النسائية، تُعبّر عن مشاعر القبول والامتنان التي ستعبر من القلب إلى الوجدان، ومن الحُب إلى المحبة، 'اصغ إلى الطير الطنانListen to the Hummingbird خاتمة صوفيّة، دعوة إلى التأمل في فضاءات تلوّنها المؤثرات الإلكترونية، فيما كوهن يقول مودِّعاً:

"اصغ إلى الطير الطنان
بجناحيه اللذين يخفقان، فلا يُبْصَران
اصغ إلى الطير الطنان
لا تصغي إليّ".

المساهمون